عندما تهتف السويداء: نريد العيش بكرامة
تشهد مدينة السويداء السورية، ومناطق أخرى في محافظتها، حراكاً احتجاجياً شعبياً واسعاً بدأ في مطلع فبراير/ شباط الجاري، رفضاً لسياسات نظام الأسد وقرارات أصدرها أخيراً، تقطع الدعم عن مواد أساسية، مثل الخبز وغاز التدفئة والوقود، عن شرائح واسعة من السوريين، في ظل تفاقم الأوضاع الكارثية التي تعصف بغالبية السوريين في مناطق سيطرة النظام، وجعلتهم يعانون من فقر وبؤس حقيقيين، نتيجة سياساته وممارساته الممنهجة.
وإذا كانت شعارات المحتجين التي هتفوا بها، وخطّوا بها لافتاتهم، مطلبيةً في البداية، إلا أنها سرعان ما تطوّرت في وقفاتهم الاحتجاجية وتظاهراتهم الشعبية إلى شعاراتٍ وطنيةٍ وسياسية، وبات شعار "بدنا نعيش بكرامة" يشكّل لسان حال حراكهم الاحتجاجي، والذي أردفوه بشعاري "ما بدنا نموت .. بدنا نعيش بكرامة"، و"كرامة مساواة عدالة"، تعبيراً عن رفضهم الذل والظلم، ثم رفعوا شعاراتٍ أخرى تُذكّر، أو بالأحرى، تستعيد، شعارات الثورة السورية في مرحلتها السلمية، وطاولت قضايا اجتماعية وسياسية، وتندّد بممارسات النظام وفساده، وتصفه بالسلطة الفاشلة، وأنها "حرامية حرامية .. هاي السلطة حرامية"، والسبب في تدهور أحوال السوريين، وأن "من أهدر المال العام هم الفاسدون.. وليس المواطنين"، فيما ركّزت شعارات أخرى على البعد الوطني، وتدعو إلى بناء "وطن لكل السوريين"، وترفض أي وجود أجنبي على الأراضي السورية، مثل شعار "لا شرقية ولا غربية .. بدنا سورية بدون تبعية".
نقطة فارقة في الحراك السوري، كونه يطاول إحدى مناطق سيطرة النظام، والتي لا يمكنه اتهام المحتجين فيها بالإرهابيين والمتطرّفين الإسلاميين
تُظهر احتجاجات السويداء أن البؤس قد بلغ بالسوريين حداً لا يمكن أن يتحمّلوه، وأنه لم تعد تنطلي عليهم "نظرية المؤامرة الكونية"، ولا الذرائع الواهية، التي لطالما ساقها نظام الأسد في تبرير حربه على السوريين وتأبيد سطوته، فراحوا يشيرون علنا إلى الأسباب الحقيقية لبؤسهم ومعاناتهم، والتي لا تنحصر في فساد النظام وأجهزته، بل في جميع ممارساته وسياساته الممنهجة. لذلك لم تغب عن حراك السويداء المطالبة الواضحة بتغيير النظام، بوصفها مطالب غالبية السوريين، من خلال رفع نشطائه لافتاتٍ تطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، الذي ينص على الانتقال السياسي في سورية، وتطالب بإخراج المعتقلين من زنازين النظام، إضافة إلى توجيه رسالة مصوّرة إلى كل السوريين، أن "الدم السوري واحد"، وأن "سورية لكل من فيها، ولن نقبل الذل والتهميش".
وليست المرة الأولى التي تشهد فيها محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، حراكاً ضد نظام الأسد، إذ توالى خروج المظاهرات فيها منذ اندلاع الثورة، وخصوصا في مطلع 2020، حيث شهدت اعتصامات ومظاهرات ركّزت على الجانب المعيشي، ورفعت شعار "بدنا نعيش"، ثم تصاعدت حركة الاحتجاج في يونيو/ حزيران من العام نفسه، ورفعت سقف شعاراتها السياسية إلى حدّ المطالبة بإسقاط نظام الأسد، وتحميل رئيسه مباشرة مسؤولية الفشل في معالجة الأزمات المعيشية والاجتماعية والوطنية.
والملاحظ أن الحراك الاحتجاجي حظي بمستوى كبير من القبول والمشاركة من قطاعات واسعة من أهالي السويداء، حيث شهد مشاركة رجال دين لأول مرة إلى جانب النشطاء والشباب، وأن جزء كبيراً من المشاركين في الاحتجاجات تقل أعمارهم عن 25 عاماً، أي كانوا أطفالاً حينما اندلعت الثورة السورية في 2011، لكنهم حملوا تراثها وذاكرتها بدليل استعادتهم شعاراتها وهتافاتها، فيما شكّل تلامذة المدارس وطلاب الجامعات والخرّيجون الجدد العاطلون نسبة كبيرة بينهم، إضافة إلى شرائح من الفئات الوسطى ومشاركة أبناء المدن والأرياف في مختلف مناطق محافظة السويداء.
تجدّد الاحتجاجات دليل على أن مطالبة السوريين بالتغيير السياسي مستمرّة
ويشير استمرار هذا الحراك الاحتجاجي، والمشاركة الواسعة فيه، إلى أنه بات أكثر تنظيماً من تحرّكات سابقة، وهو نقطة فارقة في الحراك السوري، كونه يطاول إحدى مناطق سيطرة النظام، والتي لا يمكنه اتهام المحتجين فيها بالإرهابيين والمتطرّفين الإسلاميين، بالنظر إلى أن غالبيتها من الأقلية الدرزية، الأمر الذي يعرّي ما سعى إليه النظام عبر محاولاته الحثيثة لتسويق مقولة إنه حامي حمى الأقليات في سورية. إضافة إلى أن حراك السويداء يأتي في وقتٍ يحاول فيه النظام الظهور بمظهر المنتصر الذي أعاد الأمور إلى سابق عهدها قبل الثورة، في حين أن توالي الاحتجاجات، وانتقالها إلى أكثر من منطقة، يظهر بوضوح أنه ليس أكثر من سلطة أمر واقع مفروضة على السوريين في مناطق يسيطر عليها بالقوة، وبدعم من الروس والإيرانيين ومليشياتهم. لذلك، أكثر ما يخشاه نظام الأسد أن تلاقي احتجاجات السويداء صداها في مناطق أخرى من مناطق سيطرته، والتي قد تفضي إلى خروج الأمور عن قبضته، وخصوصا أن مناطق محافظة درعا المجاورة سبق أن شهدت احتجاجاتٍ واسعة ضد النظام، قبل أن يفرض الروس عليها تسوية جديدة.
ويشكل تجدّد الاحتجاجات دليلاً على أن مطالبة السوريين بالتغيير السياسي مستمرّة، وتعبّر عن مطامح غالبيتهم في مختلف مناطق وجودهم وعيشهم، بمن فيهم القاطنون في مناطق سيطرة النظام. كما أن تجدّدها واستمرارها في محافظة السويداء، بالرغم من القبضة الأمنية المفروضة عليها، يغير المعادلات التي يحاول بعضهم تسويقها إعلامياً وسياسياً، عبر تصوير الصراع في سورية طائفياً، بين أكثرية سنيّة وأقلية علوية، ويظهر حقيقته بوصفه صراعاً سياسياً ووطنياً، الأمر الذي يعيد القضية السورية إلى جوهرها، بوصفها قضية وطنية وسياسية، وصراعاً يخوضه السوريون ضد نظام الأسد، ولسان حالهم يقول: "بدنا نعيش بكرامة"، وبما يمنحه معنى وطنياً متجدّداً غايته الخلاص من الاستبداد والعيش بكرامة.