عندما قٌهر الجيش الذي لا يُقهر
تتسارع الأحداث في قطاع غزّة، وتحمل مفاجآتٍ كثيرة، بعد المفاجأة الأولى، عملية طوفان الأقصى التي هزّت عرش إسرائيل للمرّة الثانية بعد حرب عام 1973، تلك العملية التي خطّطت لها كتائب عزّ الدين القسام (الجناح العسكري في حركة حماس) بمنتهى السرّية، فاستطاعت كسر قوالب ومفاهيم ومسلّماتٍ لطالما خاف منها بعضهم، ولطالما تغنّت بها إسرائيل.
أول من اهتزّ في هجوم كتائب القسام على عدة مواقع إسرائيلية في غلاف غزّة كانت المؤسسة العسكرية والجيش الإسرائيلي. إذ على الرغم من إقامة بنية نظام دفاعي غير مسبوق في العالم، ويخضع لمراقبة إلكترونية وحرارية وبشرية، تُضاف إلى جدار إسمنتي عازل يرتفع عدّة أمتار، ويفصل أراضي قطاع غزّة عن جواره من مستوطنات وكيبوتسات إسرائيلية، إلا أن ضباط الجيش الإسرائيلي وعناصرهم في حاجز إيرز وغيره، تمت مفاجأتهم في أسرّتهم ومنازلهم واقتيدوا أسرى إلى داخل قطاع غزّة.
كانت الضربة المؤلمة الثانية لمنظومة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية مع كل أجهزة الاستطلاع المرتبطة بها من وسائط فضائية وجوية وأرضية، تضاف إلى أعداد كبيرة من العملاء، استطاعت "حماس" تضليلهم وخداعهم وإبعاد أنظارهم عن عمليات التخطيط والتنظيم والتدريب وحتى ساعة التنفيذ.
أول من اهتزّ في هجوم كتائب القسام على عدة مواقع إسرائيلية في غلاف غزّة كانت المؤسسة العسكرية والجيش الإسرائيلي
ظهر التأثير الثالث لعملية طوفان الأقصى في ضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وغياب منظومة السيطرة والقيادة، والانخفاض الشديد للمعنويات وللثقة بقدرات الجيش وأجهزة الأمن ومنظومة الدفاع داخل المجتمع الإسرائيلي.
حيال ما تقدّم، وما آلت إليه الأمور في إسرائيل، لا يمكن اعتبار "طوفان الأقصى" عملية عسكرية اعتيادية، قتلت وأسرت وعادت، لأن الآثار التي تركتها والشروخ التي أحدثتها في جسد الكيان الإسرائيلي قد تمتد سنوات، وقد تشكل نقطة فارقة تقاس بها الأحداث بعد ذلك، وهذا ما يفسّر الاندفاعة السريعة للقيادة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية نحو عملية انتقامية أطلقوا عليها اسم "السيوف الحديدية"، ومن أجلها جرى استدعاء زهاء 320 ألف شاب إسرائيلي ليُضافوا لحوالي 160 ألفا في الخدمة الفعلية في الجيش الإسرائيلي وبشكل دائم، ورفعت الجاهزية القتالية لكل أنواع القوات المسلحة، ووضعت في حالة تأهب على كامل الحدود مع قطاع غزّة. ولم ينحصر الخوف على إسرائيل داخل غرف عمليات الجيش الإسرائيلي فقط بل تعدّاه نحو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فتم تحريك حاملتي طائرات (جيرارد فورد وآيزنهاور) مع مجموعتين أميركيتين بحريتين ضاربتين انضمت لهما سفن حربية من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، واتخذوا من قبرص مقرّاً مؤقتاً لهم، حيث فيها قاعدتان جويتان بريطانيتان. وتعكس الحركة المتسارعة بتشكيل تلك القوى البحرية الكبيرة مدى الخوف الذي حملته التقارير العسكرية والأمنية لأجهزة الاستخبارات الغربية التي رصدت الخلل داخل المجتمع الإسرائيلي، والتفكّك الذي أصابه نتيجة هجوم كتائب عز الدين القسّام.
عندما يستطيع عدة مئات من مقاتلي كتائب القسّام العبث بمعادلة الردع الإسرائيلية وتمزيقها والدوس عليها، فتلك سابقة ستزيح الغشاوة عن كثر آمنوا بقوة إسرائيل
ليس مردّ حتمية الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى رغبة إسرائيلية بالثأر والانتقام، بل هناك ما هو أبعد من ذلك، فصورة الجيش الذي لا يُقهر اهتزّت ويجب أن تعود، والثقة التي كانت لدى الإسرائيليين بأن هناك جيشا يحميهم تلاشت، ويجب استردادها. وهناك أيضاً معادلة الردع التي أوجدتها إسرائيل في الداخل والخارج، وعملت على ترسيخها عقودا، فتلك المعادلة انكسرت. وعندما يستطيع عدة مئات من مقاتلي كتائب عز الدين القسّام العبث بمعادلة الردع الإسرائيلية وتمزيقها والدوس عليها، فتلك سابقة ستزيح الغشاوة عن كثر آمنوا بقوة إسرائيل، وصدّقوا الكذبة الإسرائيلية واقتنعوا وتحاشوا الاصطدام بها. وبالتالي، ستعمل إسرائيل جاهدة، وبكل ما أوتيت من قوة، لضرب حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وحتى حزب الله في جنوب لبنان، من أجل استرداد معادلة الرعب والردع التي احتفظت بها إسرائيل عقودا طويلة من دون اختبار.
السبب الثالث الذي يدفع إسرائيل إلى شن عملية اجتياح عسكرية داخل غزّة تكمن في إعادة توحيد الجبهة الداخلية المهزوزة أصلاً بصراعات نتنياهو السياسية مع خصومه في الداخل، لتأتي عملية طوفان الأقصى وتزيد الشرخ وتفتّت الجبهة الداخلية لإسرائيل، نتيجة ضعف الثقة بقيادتهم العسكرية والسياسية. وهذا ما أفرزته نتائج استطلاع أجريت، أخيرا، بعد عملية حماس في غلاف غزّة، حيث أكد معظم من شملهم استطلاع من الإسرائيليين عن فقدان ثقتهم بقيادتهم الحالية، وأن 94% يرون حكومة نتنياهو فاشلة، وأن 56% طالبوا باستقالة نتنياهو، و52% طالبوا باستقالة وزير الدفاع، وأن معظم الشعب الإسرائيلي شعر بالخطر بعد عملية طوفان الأقصىن كما حصل عام 1973 بل أكثر منه قليلاً.
ويبقى السبب الأهم الذي يدفع إسرائيل إلى اقتحام غزّة مدينة الأنفاق تحت غزّة، والتي يُطلق عليها الإسرائيليون اسم "مترو غزّة"، حيث توجد خطوط الإنتاج العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وحيث مستودعات التخزين لعشرات آلاف الصواريخ وقواعد إطلاقها، وحيث تصنّع وتجهّز وتخزّن الطائرات المسيّرة بأنواعها (الهجومية والاستطلاعية والانتحارية)، وحيث الملاذ الآمن لقادة "حماس" وعناصرها. ويقول قادة إسرائيل إنه بدون تدمير تلك المدينة ما تحت أرضية لن تشعر إسرائيل بالأمان والهدوء.
التفوّق التقني والعسكري للجيش الإسرائيلي تقابله إرادة قتال فلسطينية وقدرة هائلة على الاستفادة من مسرح أعمال قتالية يُتقنها الفلسطيني وتخشاها إسرائيل
تقول عملية التتبع إن إسرائيل حشدت خمس فرق عسكرية (مشاة ومدرّعة) على الحدود الشمالية والشرقية لقطاع غزّة، على أن يجري تأمينها بكتلة مدفعية قصيرة وبعيدة المدى، مع منظومات صواريخ متعدّدة الأمدية، تساندُها مجموعات بحرية ضاربة تحاصر قطاع غزّة، وتشارك بأعمال التأمين والتمهيد والدعم الناري للقوات البرّية التي ستقتحم قطاع غزّة، وكل تلك القوات تحظى بتغطيةٍ جويةٍ رُصدت لها أكثر من مائة طائرة مقاتلة ومقاتلة قاذفة وعشرات الحوّامات القتالية ومئات المسيّرات.
وقد لوحظ بعملية التمهيد الناري الذي تقوم به قطعات المدفعية والدبّابات، إضافة إلى الطيران القاذف الإسرائيلي، أنها تشمل كامل قطاع غزّة، لكن ثقل التركيز هو على القطاع الشمالي، حيث مدن غزّة وبيت لاهيا وبيت حانون وجباليا، تلك المناطق التي أصبحت شبه مدمّرة، بعد تقسيم الرمايات المدفعية والصاروخية لها (نارياً وتدميرياً) إلى قطاعاتٍ وأقسام، يبدو أنها تتناغم وتتوافق مع محاور التقدّم الواردة في خطّة الاجتياح الإسرائيلي التي خطّطت لها القيادة العسكرية، ووافقت عليها القيادة الإسرائيلية، ونبّه لها الرئيس الأميركي بايدن بقوله لنتنياهو: "عليكم بوضع خطط عسكرية مُحكمة تخلو من الأخطاء"، وكأنه أراد أن يحذّر الإسرائيليين من الوقوع في مستنقع غزّة كما وقع الأميركيون في مستنقعات فيتنام وأفغانستان والعراق.
أرعبت عملية طوفان الأقصى التي ستدرّس في كبرى الأكاديميات العسكرية مستقبلاً إسرائيل، وأرعبت حلفاءها الذين سارعوا إلى حمايتها. والرغبة الإسرائيلية بالثأر والانتقام تدفعهم إلى ارتكاب مجازر، كما حصل في مشفى المعمداني في مدينة غزّة. وفي المقابل، ليست حركة حماس وحليفها الجهاد الإسلامي لقمة يسهل بلعها وهضمها، بل على الرغم من قدراتهم العسكرية المتواضعة قياساً مع إسرائيل، إلا أنهم يشكّلون رقماً صعباً في حرب اجتياح غزّة، فالتفوّق التقني والعسكري للجيش الإسرائيلي تقابله إرادة قتال فلسطينية وقدرة هائلة على الاستفادة من مسرح أعمال قتالية يُتقنها الفلسطيني وتخشاها إسرائيل. وصحيح أن النهاية، وبالإمكانات العسكرية المتاحة للطرفين، قد تنجز نصراً إسرائيلياً، لكنه سيكون باهظ الثمن، قد لا تحتمله إسرائيل.