عن أبعاد الاتفاقيتين التركيتين مع الصومال وجيبوتي
وقّعت تركيا والصومال في الشهر الماضي (فبراير/ شباط) اتفاقية للتعاون الدفاعي عشر سنوات. وبموجبها (لم يُعلن بعد) عن بنودها بشكل تفصيلي، ولم يُصادق عليها البرلمان التركي، ستعمل أنقرة على تأمين المصالح البحرية لمقديشو، بما في ذلك الإشراف على بناء القوة البحرية للصومال وتدريبها ومساعدتها في مكافحة الإرهاب والقرصنة وأعمال الصيد غير القانوني ومواجهة أي انتهاكات أو تهديدات خارجية لسواحل البلاد. مع أن هذه الاتفاقية تظهر نتيجة طبيعية للعلاقات الوثيقة التي أقامها البلدان منذ مطلع العقد الماضي، والتي جعلت أنقرة شريكاً استراتيجياً للصومال في عملية تعافيه من آثار الحرب وفي مكافحة حركة الشباب المتمرّدة، كما مكّنتها من إيجاد موطئ قدم عسكري لها في البلاد من خلال إنشاء أكبر قاعدة عسكرية في مقديشو، إلآّ أنها تكتسب أهمية أخرى في سياق التنافس الإقليمي والعالمي المتصاعد على النفوذ في منطقة القرن الإفريقي.
جرى إبرام هذه الاتفاقية مباشرة بعد إبرام إثيوبياً اتفاقية مع إقليم أرض الصومال (الانفصالي) تسمح لأديس أبابا باستخدام ميناء بربرة الواقع على ضفاف خليج عدن في مدخل مضيق باب المندب لأغراض التبادل التجاري 50 عاماً، ما يجعل تركيا جزءاً أساسياً من ديناميكيات الصراع بين الحكومة الفيدرالية وإقليم أرض الصومال من جهة وبين الصومال وإثيوبيا من جهة أخرى. وبينما لا يزال من غير المُمكن تقييم آثار الاتفاقية على الدور المستقبلي لتركيا في هذه الديناميكيات، إلآّ أن مقديشو تتوقّع أن تدعمها تركيا لإفشال الطموحات الإثيوبية. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن الاتفاقية قد تضع تركيا في مواجهة مع إثيوبيا تُقوّض علاقاتهما التي تنامت بالفعل في السنوات الأخيرة. مع ذلك، وبمعزل عن التأثيرات المحتملة لاتفاقية التعاون الدفاعي بين تركيا والصومال على مستقبل قضية إقليم أرض الصومال، ستعمل الاتفاقية على تعزيز حضور تركيا بشكل أكبر في الصراع الجيوسياسي المُتعدّد الأطراف في منطقة القرن الإفريقي وتُتيح لها إنشاء قاعدة بحرية في الصومال أو جيبوتي التي أبرمت أيضاً في الشهر الماضي (فبراير/ شباط) اتفاقية للتعاون العسكري مع أنقرة.
تنطلق مساعي تركيا لتعزيز حضورها في منطقة القرن الإفريقي من دوافع مُتعدّدة، في مقدّمها تعزيز دورها في القارة الإفريقية، وتأمين طرق التجارة البحرية. وبالنظر إلى أن آثار الحرب الأهلية جعلت الصومال غير قادر على حماية سواحله ومواجهة الطموحات الإثيوبية التي تُهدّد وحدة أراضيه، فإن تعزيز علاقاته مع تركيا يُساعده في تقويض طموح إقليم أرض الصومال بالانفصال، وفي إحداث توازن للقوى مع إثيوبيا. وبالنسبة لأنقرة، البارعة في التقاط الفرص لتعزيز نفوذها في الخارج، تتيح الاتفاقيتان مع الصومال وجيبوتي لها إظهار دورها الجديد في القرن الإفريقي كوسيط للقوة والاستقرار في المنطقة. مع الأخذ بالاعتبار المُحدّدات الأساسية للاستراتيجية التركية في القرن الإفريقي، والتي ترتكز على إقامة شراكات مُتعدّدة الأوجه مع مختلف الجهات الإقليمية الفاعلة، فإن تركيا ستواصل إيلاء أهمية للحفاظ على علاقتها الودّية مع إثيوبيا. لكنّها في الوقت نفسه ستبقى تنظر إلى تحالفها الوثيق مع الصومال ركيزة أساسية لدورها الجديد في القرن الإفريقي.
أظهرت تركيا قدرة في تجنّب الانخراط السلبي في صراعات إفريقية لعدم تقويض استراتيجيتها الرامية إلى بناء شراكات مُتعدّدة
على الرغم من أن البيئة الإقليمية المتوترة التي صاحبت إبرام الاتفاقيتين التركيتين مع الصومال وجيبوتي تُضفي عليهما طابعاً مرتبطاً بتصاعد المنافسة الجيوسياسية في القرن الإفريقي، فإنهما، من منظور تركي، تُساعدان في الحدّ من مخاطر تصاعد حدّة الاضطرابات القائمة من زمن طويل في المنطقة. تطمح أنقرة إلى أن تتحوّل الاتفاقيتان إلى نموذج للتعاون مع مختلف الجهات الفاعلة في المنطقة، مع التركيز على فوائد التحالفات الدبلوماسية والاقتصادية في مواجهة السياسات المثيرة للتوتر. لذا، الاتفاقيّتان مُصمّمتان، بدرجة أساسية، لإرسال رسالة واضحة إلى الدول المجاورة والكيانات المنخرطة في نزاعات إقليمية وبحرية لإيلاء أهمية للتعاون الإقليمي والحلول الدبلوماسية، بدلاً من المواقف العدوانية. ولا تقتصر الفوائد الإيجابية للاتفاقيتين على تركيا والصومال وجيبوتي، بل تخدم أيضاً مصالح القوى الإقليمية والدولية الأخرى المنخرطة في المنافسة على النفوذ في القرن الإفريقي، خصوصاً إذا ما كرّست موازين قوى تُعزّز فرص الاستقرار في المنطقة.
مع ذلك، تتوقّف قدرة أنقرة على توظيف الاتفاقيتين لتعزيز دورها وسيطاً للقوة والاستقرار في المنطقة على أن تؤدّيا إلى دفع إثيوبيا إلى التراجع عن طموحاتها الإقليمية التي تُهدّد بتأجيج التوترات في المنطقة والانخراط إلى جانب أنقرة والقوى الفاعلة الأخرى في تعاون على أرضية تُحقق المصالح الجماعية لدول القرن الإفريقي والأطراف الإقليمية والدولية المنخرط في ديناميكيات المنافسة الجيوسياسية في المنطقة. وبما أن أنقرة تتمتّع بعلاقات وثيقة مع إثيوبيا، وسبق أن زوّدتها بطائرات عسكرية بدون طيّار في عام 2022 في حربها ضد إقليم تيغراي، فإنه سيتعيّن عليها الموازنة بين تعزيز حضورها في القرن الأفريقي وتحقيق المصالح الوطنية لكل من إثيوبيا والصومال. وقد أظهرت تركيا قدرة في تجنّب الانخراط السلبي في صراعات إفريقية لعدم تقويض استراتيجيتها الرامية إلى بناء شراكات مُتعدّدة مع مختلف دول القارّة حتى تلك التي لديها عداواة وصراعات فيما بينها. لكن تصاعد الصراع الصومالي الإثيوبي إلى مستويات أكثر اضطراباً بعد اتفاقية أديس أبابا مع إقليم أرض الصومال يُشكّل اختباراً صعباً لتركيا في التعامل مع الديناميكيات المحلية والإقليمية المعقدة في منطقة القرن الإفريقي.