عن "أريج" الصحافة العربية
سنين طويلة، ظل تعليم الإعلام في الوطن العربي حبيس كليات ومعاهد جامعية معزولة عن الواقع المهني، وظلت القطيعة سمة العلاقة بين تلك المؤسسات الأكاديمية والمؤسسات الإعلامية المهنية. ولسنواتٍ، خرجت المؤسسات التعليمية طوابير من دارسي الإعلام المحشوّة رؤوسهم بكثير من النظريات والتنظير، وقليل من التدريب والمهارات العملية التي لا تُلبي متطلبات سوق العمل، ولا تُؤهل الخرّيج للمنافسة. لم يتغير الحال كثيراً، على الرغم من الثورة الرابعة التي شهدها العالم خلال ربع القرن الأخير، وهمّت، على وجه الخصوص، صناعات الإعلام والاتصال، وقدّمت للبشرية ما يُعرف بالإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي. صحيحٌ، طرأ أخيرا بعض الوعي داخل المؤسسات التعليمية بأهمية تحديث المناهج لتوازن وتوازي بين التلقين النظري والتدريب العملي في كليات الإعلام، غير أنه بطيء وغير كاف.
يختلف الحال خارج أسوار المؤسّسات الأكاديمية، إذ شهدنا، خلال العقدين الأخيرين، مبادرات وطنية محدودة من مؤسسات إعلامية لتدريب الصحافيين الجدد، أو خرّيجي الإعلام في مختبرات حقيقية تُقرّبهم من واقع المهنة، وتُقدّم لهم المهارات العملية مع جرعاتٍ خفيفةٍ من المبادئ النظرية. ثم ما لبث هذا التوجه أن تطوّر إلى مبادرات عربية أوسع، عبر وطنية، و أكثر احترافية. من أهم المبادرات التي انطلقت في عالمنا العربي، بهدف تطوير العمل الصحافي المحترف، "شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج)، أول شبكة في العالم العربي، تأسست في عمّان عام 2005، للمساهمة في دعم صحافة استقصائية عربية احترافية مستقلة. حدّدت "أريج" مهمتها الأساسية في تعزيز صحافة الاستقصاء العربية بتوفير تدريب نوعي للصحافيين، ومنحهم أدوات للتطور والاحتراف بمعايير عالمية، مع توفير الإشراف والدعم اللوجستي والإنتاجي والبحثي والأكاديمي والتشبيكي مع منصات النشر ومراكز البحث والاستقصاء العالمي. كما تقدّم الشبكة المشورة الاحترافية للصحافيين، لمساعدتهم على حماية أنفسهم صحياً وقانونياً ونفسياً ومهنياً. منذ تأسيسها درّبت "أريج" 2800 صحافي/ة عربي، وساعدت وأنتجت نحو 600 تحقيق استقصائي، وفازت بنحو 60 جائزة تقدير دولية وعربية.
وعلى الرغم من ارتباط اسم"أريج" بالصحافة الاستقصائية، إلا أنها توفر تدريباتٍ متنوعة في مهارات إعلامية أوسع، مثل مهارات السرد الإبداعي، تقنيات المقابلة الصحافية المبنية على مبدأ المساءلة، وإعداد القصص الصحافية المبنية على البيانات. وقد طوّرت "أريج"، أخيرا، مساقاً أكاديميا موسعاً في "الصحافة الاستقصائية الحديثة". ونشرت قبل ذلك النسخة العربية من دليل تدريب مؤسسة "إنترنيوز لصحافة البيانات"، وأنتجت ورقة سياسات حول "مكافحة المعلومات المضللة في العالم العربي" بالشراكة مع مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية. وأخيرا وليس آخراً، أعلنت الشبكة عن إطلاق مشروع "100 واط" لتدريب مائة متدرب/ة على الابتكار وتطوير تقنياتهم ومهاراتهم الصحافية في تناول القضايا الحيوية في مجتمعاتهم، بما يحقّق أفضل الأثر للتحفيز على التغيير والإصلاح.
خلال مؤتمر أريج السنوي الخامس، (الرقمي الأول)، جرت فعالياته الأسبوع الماضي، قدّمت المديرة العامة للشبكة، الإعلامية روان الضامن، رؤيتها لآفاق العام المقبل، مؤكّدة على دعم "أريج" مبادرات تدقيق المعلومات ونشر التوعية المعلوماتية، وربط التكنولوجيا بالإعلام العربي على أعلى مستوى، ودعم التعليم الأكاديمي بالمهني، وربط التعلم الرقمي التفاعلي مع الوجاهي، استعداداً لزمن ما بعد جائحة كورونا. ينسجم هذا التوجه مع ما تتعهّد به "أريج" منذ انطلاقها من مواصلة العمل مع شركائها العالميين لإسناد العمل الصحافي العربي المحترف وتطويره.
تُقدّر منظمة مراسلون بلا حدود أن السنوات العشر المقبلة ستكون عقدًا حاسمًا لحرية الصحافة، بسبب تراكم الأزمات على باب صاحبة الجلالة، سواء تعلق الأمر بأزماتٍ جيوسياسيةٍ (عدائية النماذج الاستبدادية وتغول السياسات القمعية) أو بأزمة ثقة (التشكيك في مصداقية وسائل الإعلام، والشعور بالكراهية تجاهها) أو بأزمة اقتصادية (شحّ موارد المؤسسات الإعلامية المالية). ولأجل ذلك، تحتاج الصحافة العربية مبادرات "أريج"، ومبادراتٍ عربية أخرى تعزّز المهنية المؤسساتية المستقلة، وترفع كفاءة الإعلاميين العرب لمواجهة تحدّيات متعدّدة الرؤوس، وعابرة للحدود، تهدف إلى تقويض السلطة الرابعة.