عن أفق التوريث الجديد في سورية
ظهر الرئيس الأميركي المنتخب أخيرا دونالد ترامب، قبل أيام، وهو يخدمُ الزبائن في أحد مطاعم ماكدونالدز، في ولاية بنسلفانيا. ربّما كان ذلك في إطار الدعاية الانتخابيّة لحملته، مُضَافاً إليه اختيارهُ شركة مأكولات سريعة وعمليّة، تمثّل نموذجاً صارخاً لهوية السّطوة الأميركيّة في التسويق السياسيّ، أي أن الفكرة القادمة من تزاوج ظهور البرجوازيّ، اليمينيّ، مع علامة تجارية، كثيراً ما تزعم أنها تختار موظفيها من جنسيّات مُتعدّدة في فروعها في العالم. هي فكرةٌ في وسعها أن تُكسب الشركة معنويّاً، وربّما ماديّاً، من عمليات بحث متصاعدة في آن واحد على المنصّات الافتراضية، مثلاً. وهذا قد يُعيد لها الأضواء قليلاً بعد اتهامات توثق دعمها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه على غزّة.
ما لبث مشهد وجود ترامب، ذاك، في "ماكدونالدز" موظفاً، أنّ تحوّل إلى مادّة للتندّر لدى بعض السوريين على الإنترنت. بغض النظر عن هزالة المقاربة بين البلدين، إلّا أنّ فكرة الاصطياد تلك تدل على تفكير بعثيّ، متخشّب، لم يزل ضارباً في العقل السوريّ. تقول النكتة: ثمّة من طالب المرشّح المُفترض لخلافة بشار الأسد، أي ابنه حافظ، بأن يعمل في أثناء حملته الانتخابية المقبلة خادماً للسوريين في مطعم "فلافل عَ كيفك" ضمن أحد فروعه (اللّامركزية) في دمشق!
وما بين المقارنة الساذجة والواقع المُضلّل، لاح السؤال السوريّ حول مستقبل الحُكم بعد رحيل بشار الأسد. ذلك الرحيل الذي قد لا يشير بالضرورة إلى رحيل النظام دولة عميقة. فالاختبارات مع الدول اللاعبة في مصير السوريين أظهرت مدى مرونة هذا النظام باختيار شخصياتٍ أخرى تقود ألعابه ومراوغاته وتقدّم الخدمات والتنازلات بجودة دمويّة، مقابل البقاء في الحكم. هي مرونة سريعة، مُنافسة، كالوجبات الجاهزة التي ألهمت بعض السّوريين بتقريب المسافات، وجعل ظهور ترامب، الشعبيّ، يذكّرهم بابن بشّار الأسد، حافظ. إنّه تفكير العصابات المتوارية في خرابات المدن الخلفية، والشوارع المقطوعة، يبحثون عن ممثل يفهم طريقة العمل، ويُحَبّذ أن يكون من عائلة الزعيم السابق. رغم ما يحدُث في الجوار، تجدهم يفكرون بتلك الآلية المألوفة في هيكلة الحركات والمنظمات المسلّحة التي تقاتل عسكرياً وفق أيديولوجية شرسة، والتي قد لا تنهار، حتى لو جرى قطع رأس القائد. إذاً، ما الجديد في سورية حتى تروّج، على الأرجح، المخابرات الإعلامية التابعة لنظام الأسد، مثل تلك المقارنة السياسية، المنحولة، باقتراح حافظ بشار الأسد وريثاً لحكم هذا العدم السوريّ؟
يتعرّض البيت الداخلي لنظام الأسد إلى تهديمٍ تدريجيّ، يتمثّل بالتخلص من معظم الشخصيات التي تلوّثت بالدم أو ظهرت للضوء حتّى احترقت
يتعرّض البيت الداخلي لنظام الأسد إلى تهديمٍ تدريجيّ، يتمثّل بالتخلص من معظم الشخصيات التي تلوّثت بالدم أو ظهرت للضوء حتّى احترقت، من سياسيين واقتصاديين وإعلاميين، وقد بدأ ذلك إبّان خروج رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، من المشهد السياسيّ كليّاً، مروراً باختفاء أسماء الأسد، زوجة بشار، بسبب إصابتها المزعومة بسرطان الثدي (...) ثم اشتعال حوادث القتل المفاجئة والمجهولة التي تعرّضت لها شخصيات قد لا تقرب الأسد، عائلياً، مثل مقتل مستشارته، القريبة من روسيا، لونا الشبل، ومقتل براء القاطرجي، رجل الأعمال المرتبط بروسيا أيضاً، والذي يستثمر النفط ويموّل مليشيات تابعة لإيران والأسد. وليس انتهاءً برفع جماعي لحصانات أعضاء في برلمان الأسد، لعل أبرزهم وأكثرهم شهرة رجل الأعمال النافذ محمد حمشو. إذاً، قد تكون هناك تغييرات داخلية تجري في بنية نظام الأسد، بالتزامن مع جرعات التعاون الأمني، التي تبتلع التعليقات على استهداف شخصيات فاعلة في الوجود الإيرانيّ، سوريّاً، من إسرائيل أو غيرها، فالجميع، حسب ما يبدو، يتصارعُ على تقديم الخدمات والولاءات لمصالح الدول المُسيطرة ضمن لعبة العصابات المتناحرة في سورية.
أمام تلك التغييرات الداخلية في نظام الأسد، التي بدأت باختيار وزراء في حكومته "الجديدة" أخيراً، لم يكونوا وزراءً من قبل، راحوا يتبعون تصفية إدارية جديدة ابتدعها الأسد، تتلخّص بالبحث عن الموظفين الأقارب الذين يعملون في مؤسسات النظام نفسها، ثمّ تفكيك وجودهم معاً، وتوزيعهم بعيداً عن بعضهم خوفاً من تشكيل كيانات داخلية للهيمنة على المناصب واقتسام الغنائم من دون الأسد.
هي محاولات لتهيئة الظروف للوقت المناسب لطرح حافظ بشار الأسد وجهاً بديلاً لأبيه، علماً أنّه لم يدخل المشهد السياسيّ بشكل واضح، لكنّه يتعلم اللّغات ومهارات القيادة، بينما يجري صقله في روسيا. وما اختفاء أمّه أسماء عن المشهد إلا جزءاً من سيناريو يتوقّعه مُحلّلون لشكل النظام القادم مع الوريث الجديد، حيث جرى ربط غياب أسماء الأسد عن الساحة الإعلامية بالتداعيات التي لحقت بشخصيات النظام الفاعلة لتبيض صفحة العلاقات والوجوه مع الخارج، عربياً ودولياً. ويمكن تفسير إعادة افتتاح بعض السفارات العربية والأوروبية في دمشق تحت غطاء التنسيق لإعادة اللاجئين السوريين، نوعاً من طروحات جسّ النبض أمام الرأي العام لتعويم النظام وشرعنة توريثه.
يعتاد النّاس على ما يتعلمونه، ويفضّلون الاستقرار بعد ويلات التهجير والفقر والقتل، خصوصاً إذا كان التجهيل السياسيّ، لغة حكامهم منذ عقود، هناك في المدن التي تسيطر عليها سلطة بشار الأسد. لا يبحث الناس عن آفاق المستقبل الجديد لسورية، إنهم يتعايشون بمرونة لا تصدّق، يناقشون في أسماء الوزراء الجدد للأسد، يذهب بعضهم إلى أوروبا عبر (المعارضة الداخلية) للحصول على المساعدات المالية لحكومة النظام تحت مسميّات "تعافي سورية".
ضعف المعارضة السورية، مسلّحة أم سياسية، فانقسامها المتشعب في المشهد جعل سوريين كثيرين يفقدون الثقة بهم وباختياراتهم لحلول الأزمة
يساهم الإعلام الأسدي، بمختلف أشكاله، مرئياً ومسموعاً ومكتوباً، بترسيخ تلك "المُعافاة" المزعومة. بينما يقنّن النظام للسوريين الماء والمال والكهرباء والأمان، يلغي الكرامة والحرية، ويترك بعضهم يُقتل في استهدافات إسرائيلية لمواقع عسكرية تابعة لإيران أو لغيرها في سورية. وعلى هذا النحو، يسقط معظم السوريين في ديناميّات الموت المنتظر، ويبرمجون عقولهم بانتظار تنفيذ فكرة توريث الحكم بعد بشّار الأسد، لابنه، وهم ربما يربطون ذلك بعوامل تاريخية واجتماعية وسياسية، تتفاعل بشكل معقّد وتؤثر على موقفهم وتقييمهم للموضوع، حيث يتعلق بعدة نواحٍ واقعية، بلورت الحرب ملامحها، منها ما هو متعلقٌ بطبيعة الجيش والقوات الأمنية القائمة على طيف يغلّبه الولاء المطلق للأسد بحكم الانتماء الطائفيّ والذي يدل على عقائديّة عالية أزاحت الانتماء الوطنيّ، وبالتالي سوف تحتاج إعادة الهيكلة وتمزيق ذاك البنيان إلى كثير من الزمن والجهد، وهذا ما سوف ينعكس على الاستقرار في بلد منهار أمنيّاً واقتصاديّاً.
من ناحية أخرى، يُظهر الضغط الدولي لقراءة الواقع السياسيّ ونوعية التحالفات الإقليمية داخل سورية أن القوى التي تهيمن على القرار محلياً تنحاز إلى خيار الاستقرار وقبول النظام الحالي، بسبب عدم توفر بديل يشكل توافقاً معنوياً للأشخاص الذين يسيطرون على الجيش وأغلب المؤسسات الرسمية، الأمر الذي قد يجعل السوريين يعتقدون بأن البدائل السياسية أصبحت محدودة.
تضاف إلى ذلك نظرة التحفظ من تجارب الماضي، حيث عاشت البلاد مراحل انقلابات عسكرية طويلة وحروب داخلية، وهذا التاريخ قد يولّد لدى بعض السوريين قلقاً من إعادة المشاهد تلك مع إضافة غير معهودة، أن كلّ الجيش تقريباً يدين بالولاء للأسد، أكثر من الولاء لسورية والسوريين. وهذا ما قد يدفع التطورات إلى حرب أهلية، يرجّح امتدادها إلى الجوار وتهديد استقرار بلدان كبيرة، مثل تركيا والعراق، وخليفة الغرب في المنطقة، إسرائيل.
النظام بوصفه الدولة، يخوّن المتمردين على الدولة لأنهم ضدّ سورية!
وأخيراً، ضعف المعارضة السورية، مسلّحة أم سياسية، فانقسامها المتشعب في المشهد جعل سوريين كثيرين يفقدون الثقة بهم وباختياراتهم لحلول الأزمة التي كانت ثورة بلا قائد أو مجلس قيادة موحداً. كانت المعارضة تفتقر إلى الزعامة والتأثير بعد انتشار السوريين في بلدان اللجوء، هؤلاء الذين ما عاد معظمهم يحلم بالعودة إلى سورية وكانوا مع الثورة، فيما بقي من بقوا قلّة متوازنة في إدلب، يؤيّد نصفهم أفكاراً متشدّدة لا تناسب كلّ السوريين. هو الانقسام إذاً وقلّة تأهيل المعارضة لقيادة البلد وإحداث تغيير حقيقي في المستقبل القريب.
لقد عزّز الإعلام والتعليم في سورية منذ اندلاع الثورة سردية نظام الأسد، وكُرّست أفعال الجيش والأمن "بطولات". في المقابل، جرى وصم كلّ من تمرّد على النظام بالإرهابيين، وهذا على مدى أكثر من عقد أنجب جيلاً مضطرباً في فهم السياسة والثورة، ومؤيداً للنظام من شدّة الجهل والخواف. النظام بوصفه الدولة، يخوّن المتمردين على الدولة لأنهم ضدّ سورية! وهذا يجري يومياً من خلال عمليات مسح ممنهجة لحقوق من هجّرهم طيران الأسد الحربي ومليشياته وحلفاؤه، ثمّ دفعهم للخروج من سورية بعد أن دمّر مدنهم ومناطقهم المعارضة، واليوم يعمل الأسد على عقول ومخيلات الأطفال والشباب لترسيخ مزحة قاتلة لاقتراح وريث جديد - مستعمل في أفق سورية المجهول، من سوف يمنعه يا ترى؟