عن التردّد بين هاريس وترامب
تأخّر جو بايدن في سحب ترشيحه للانتخابات الرئاسية الأميركية. كان بإمكانه، لو اعترف باكراً بديكتاتورية العمر وبما يجلبه من بهدلة وأمراض، أن يتفادى أضراراً هائلة لحقت بصورته، ليبقى رصيدُه السياسي الممتدّ على نصف قرن محل نقاش، وقد اختتمه بدعمه المطلق الحرب الإسرائيلية الإبادية على الفلسطينيين في غزة. كان بإمكانه لو استسلم باكراً لحتمية التقدّم في السنّ أن يحسّن احتمالات فوز مرشّح ديمقراطي على وحش بوزن دونالد ترامب. لكن لا وجود لـ"لو" في التاريخ. المهم أن بايدن انسحب بالفعل، ونائبته كامالا هاريس هي الأوفر حظاً لنيل ترشيح الحزب. هاريس (59 عاماً)، ابنة عالم اقتصاد جامايكي وعالمة هندية في الطب ومناضلة في سبيل تحرير المرأة، ستخسَر لو أجريت الانتخابات اليوم، وأمامها مائة يوم لتقلب الصورة بشكل جذري. التفاف أركان الحزب الديمقراطي وحجم التبرّعات التي انهالت على حملتها فور انسحاب بايدن توحي بنيّة جدّية لمحو ما تسببت به مشاهد الرئيس المثيرة للشفقة من خسائر سياسية لحزبه ولأي مرشّح ينال بطاقته.
كان ترشّح بايدن سيحرمه من أصوات غالبية الناخبين العرب والمسلمين ممن قرّروا الامتناع عن التصويت أو الاقتراع لترامب نكاية أو انتحاراً أو اقتناعاً. أما وقد انسحب الرئيس، فسيكون على هؤلاء ضرب أخماسٍ بأسداس. كامالا هاريس منحازة لإسرائيل، ولكن بما لا يقارن مع حقارة موقف بايدن. جذورها الإثنية ولون بشرتها وزواجها من يهودي يفترض أن تجعلها مفضّلة بالنسبة لفئات واسعة من الأقليات والمتعلمين والملوّنين والشباب والنساء وسكان المدن. القاضية السابقة ابنة "السيستم" طبعاً، لكنها ليست كمهاجرين آخرين، مثل ريشي سوناك في بريطانيا، مولودة بملاعق ذهب كثيرة في فمها، فهي ابنة طبقة وسطى من عائلة "مرتاحة" مادّياً لكنها ليست مليونيرة. تدرجت كامالا في سلك القضاء حتى وبلغت منصب المدّعية العامة في كاليفورنيا، أكبر ولاية كثافة سكانياً ونمواً اقتصادياً وتنوّعاً عرقياً وتفاوتاً طبقياً. سيرة مناقضة كلياً لدونالد ترامب الذي يملأ شتائمه لها بمدلولات جندرية وعنصرية ضمنية.
داخل الإدارة، كامالا هاريس صاحبة الصوت الأعلى مناداةً بوقف إطلاق النار في غزّة وبإدخال المساعدات والأكثر انتقاداً لـ"شكل الحرب"، بما أن مبدأ الحرب نفسها محلّ إجماع هناك، أو هكذا كان الحال في الأشهر الستة الأولى. كان يفترض أن تتمكن في سنوات الولاية الأولى والوحيدة لجو بايدن، من بناء حيثيةٍ شعبية لنفسها خارج إطار "السيدة الرقم 2"، وهو ما لم يحصل. يقولون في أميركا إنها أخفقت أو أنها لم تُزوَّد بالإمكانات الضرورية لمعالجة الملف الموكل إليها، المهاجرين غير النظاميين وضبط الحدود، وهذه كارثة بما أن هذا الموضوع هو ثاني أهم ما يقترع على أساسه الأميركيون من بعد الاقتصاد. في المقابل، نجحت في الدفاع عن حق الإجهاض. في السياسة الخارجية لا يتوقّع عارفوها تغييراً كبيراً عن سياسة بايدن سوى زيادة الضغط على إسرائيل. في الداخل هي في موقع وسطي بين تيارَي الحزب الديمقراطي، التقدّمي والمحافظ. أمام صورة متشابكة كهذه، كيف يصوّت العرب والمسلمون في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، هم الذين وضعَهم القدر والظروف في موقع بيضة القبّان بسبب إقامة معظمهم في ولايات "متأرجحة" هي التي تحسم هوية الرئيس المقبل؟
كانت القاعدة كالتالي قبل سحب بايدن ترشيحه: بايدن بسوء ترامب في دعم إسرائيل، لكنه أفضل منه في كل باقي المواضيع، في السياسة الخارجية والداخلية، في النظرة إلى المهاجرين والعالم والمجتمع والثقافة والحريات الفردية والحقوق والانفتاح والمساواة والأقليات والسلاح والتغير المناخي والإجهاض والتسليم بالعِلم ومناهضة الشعبوية. اليوم ربما تصبح القاعدة: قد تكون هاريس أفضل من بايدن في الموضوع الفلسطيني والإسرائيلي والشرق الأوسط عموماً. في بقية العناوين ستكون شبيهة بالرئيس الحالي. ربما لا تكون هاريس، من خلال ما نعرفه عنها، الرئيسة التي يحلم بها أنصار أميركا أكثر عدلاً، لكن الانتخابات هي هكذا أحياناً، اختيار الأفضل المطروح لا النموذجي، وانتقاء بين الأقل سوءاً.
والحال أنّ التردد في الاختيار بين كامالا هاريس وبين كابوس اسمه دونالد ترامب اليوم، عدمية ليست في السياسة إلا كارثة يدفع ثمنها العالم كله عندما يتعلق الأمر ببلد كأميركا.