عن التنمّر الإلكتروني السياسي في تركيا
لا يعدّ التنمّر سلوكاً جديداً وغير معهود بين الأفراد في المجتمعات المختلفة، فلطالما عانت بعض المجتمعات من ظاهرة إيذاء بعض الأطفال والمراهقين من أقرانهم، وقد اتّخذ هذا الإيذاء أشكالاً عدّة، من بينها السب والإيذاء البدني والزجر والتهديد والابتزاز والتلاعب، لكن مع انتشار الشبكة العنكبوتية والهواتف المحمولة وشيوع منصات التواصل الاجتماعي، انتشرت ظاهرة التنمّر الإلكتروني، والتي تعرف بأنها كل استهداف للآخرين بمحتوى على الإنترنت يهدف إلى التحرّش بهم عبر إحراجهم أو مضايقتهم أو إهانتهم أو ابتزازهم أو التشهير بهم وتشويه سمعتهم وقدحهم وذمهم، ليتّخذ التنمّر الإلكتروني بذلك أشكالاً عدّة، منها نشر الأكاذيب والقصص المغلوطة والإشاعات والافتراءات عن أصحاب الحسابات واستخدام الألفاظ القاسية والشتائم وغيرها، وبذلك لم يعد التنمّر يعرف الحدود الجغرافية، فتوسّع محيطه، وزاد عدد ضحاياه ليشمل البالغين وأي فرد في المجتمع، أياً كانت الفئة العمرية التي ينتمي إليها. ولم يقتصر التنمّر الإلكتروني بجميع تداعياته على هذا الإطار، بل شمل أيضاً الإطار السياسي ضمن ما يُعرف بالتنمّر الإلكتروني السياسي، والذي يعني ممارسة سياسة الإقصاء والترهيب ضد الآخر لتحقيق انتصاراتٍ وهميةٍ وشعبيةٍ زائفةٍ في الوسط السياسي وعبر منصّات التواصل الاجتماعي.
ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة ما تشهده منصات التواصل الاجتماعي في تركيا أخيرا من تنمّر إلكتروني سياسي يتداول فيه مئات إن لم نقل آلاف مقاطع الفيديو على مختلف منصّات التواصل الاجتماعي تتناول اللاجئين في تركيا عموماً، والسوريين منهم على الخصوص، لأهداف وأغراض سياسية، بحيث تحوّلت هذه المنصّات إلى وعاءٍ منفلتٍ لهذه الظاهرة التي أخذت أبعاداً أكثر تعقيداً مما كانت عليه. ولعل المتابع للمشهد السياسي الحالي عبر منصات التواصل الاجتماعي في تركيا، يلاحظ أنه من ملامح التنمّر الإلكتروني السياسي الجديد ظهور بعض الزعماء المتنمرين الذين يمارسون التنمر على اللاجئين بدون هوادة ولا رادع، وبرزت أسماء وأحزاب تركية معادية للاجئين عموماً والسوريين منهم على الخصوص، لديها سردياتها الخاصة للخلاص من اللاجئين، للضغط على الحكومة ولتعويض فشلهم في الانتخابات، والحفاظ على مقبوليتهم لدى أنصارهم ومؤيديهم، منهم أوميت أوزداغ، رئيس حزب النصر الذي تأسّس على مبدأ كراهية اللاجئين والنشط إعلامياً وبشكلٍ كبيرٍ على منصّات التواصل الاجتماعي، وكذلك حزب IYI (الجيد) وحزب CHP (الشعب الجمهوري) الذي سخر كل آلته الإعلامية الضخمة ضد اللاجئين، وخصوصاً قبل الانتخابات، بحيث أصبحت عمليات التحشيد العنصري والاجتماعي والسياسي والإعلامي عبر منصات التواصل الاجتماعي كثيفة ومتواترة، وتتم دون رادع قانوني أو ضابط أخلاقي ووصل الأمر ببعضهم، وفي مختلف التعبيرات السيبرانية كالنصوص والصور والفيديوهات، إلى المجاهرة بالتهديد وبث خطاب الكراهية والاعتداء الجسدي والعنف، وقد شملت هذه الظاهرة معظم الفاعلين، أفراداً وأحزاباً، من دون استثناء.
نفي العنصرية وخطاب الكراهية ضد اللاجئين والعرب في تركيا يُعتبر كذبا
ومن الإيقاعات الخطيرة لهذه الظاهرة أيضاً أنّها على أرض الواقع بدأت تستهدف كل العرب، كالسياح والتجار والمستثمرين، بما في ذلك كل ما يمت إلى العرب بالصلة كاللافتات المكتوبة باللغة العربية على المحال التجارية. ومن إيقاعاتها الخطيرة أيضاً الممارسات غير المسؤولة الصادرة عن جهات حكومية كانت شريكة في هذا الأمر بحملتها ضد اللاجئين تحقيقاً لأهداف سياسية، يتقدّمها منع استخدام هذا الملف ضدها من المعارضة في الانتخابات البلدية المقرّرة في الربع الأول من العام المقبل، والتي تعتبر مهمة جداً للحكومة التركية لاستعادة البلديات الكبرى كإسطنبول وأنقرة وغيرها.
وبالتالي، يمكن القول إنّ ما يحدث من تنمّر إلكتروني سياسي في تركيا يستهدف اللاجئين والعرب لا يتمّ بمعزل عن ثقافة مجتمعية آخذة في التنامي، مع التأكيد هنا بأنّ إطلاق صفة العنصرية على كل الأتراك فيه افتراءٌ وتضليل، كما أنّ نفي العنصرية وخطاب الكراهية المتزايد ضد اللاجئين والعرب في تركيا يُعتبر كذبا. وعليه، ما بتنا نشاهده ونسمعه من تنمّر وخطاب كراهية وعنصرية في تركيا في الآونة الأخيرة يجعل من الحليم حيران، فما يحدُث يتنافى مع ما تقرّه الأديان وتسطره التشريعات والقوانين، بعد أن تجاوزت هذه الظاهرة في تركيا بعدها السياسي، لتتحوّل إلى "براديغم" (نموذج) في الثقافة العامة أتت أكلها وأثبتت نجاعتها التّدميريّة، فانتشرت في المجتمع الافتراضي وانخرط الجميع فيها من دون إدراك خطورة مآلاتها ومن دون التمكّن من حججها الواهنة، حتى تفشت إيقاعاتها في عمق نفوس هؤلاء، وباتت في سلوكيّاتهم اليومية مستحكمة، إلى درجة بات فيها اللاجئ في تركيا يعيش حالة غير مسبوقة من مشاعر الخوف، يمتزج فيها الوهمي بالحقيقي.