عن "الحقيقي" محمد إبراهيم أبو سِنّة
قابلته أول مرّة في المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. سنوات طويلة مرّت، عشرون عاماً أو يزيد، هذا إذاً هو محمد إبراهيم أبو سنّة، الذي درسنا قصيدته "النسور" في المرحلة الثانوية، ثم قرأنا له كثيراً، وعنه قليلاً، أقلّ ممّا يستحقّ مشروعه الشعري الضخم، يجلس هادئاً في ثياب بسيطة، ويحتفي بهذا الشاب الذي يعرّف نفسه واثقاً بأنه شاعر. دعوتُه إلى ندوة جماعة مغامير الأدبية. وافق، وقال: "طبعاً آتي إليكم، لا لكي أقرأ أشعاري، إنما لأسمع، وأقف على واقع القصيدة، فالواقع يشكّله الشباب". اتفقنا أن نستمتع بأشعاره أولاً، ثمّ يسمعُنا، أثنى كثيراً على ما أعجبه، وكان لطيفاً مع ما لم يعجبه، ولم يتوقّف اهتمامه هنا، بل دعانا إلى ندواتٍ عدّة، وتحدّث عنا، وبشّر بنا، وراهن علينا، من دون أدنى غرَض سوى القيام بدوره.
كان أبو سنّة من أبناء الجيل الثاني لقصيدة التفعيلة، شعراء الستينيّات، وكما راجت ثنائية أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور في الجيل الأول، على غرار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، راجت ثنائية أمل دنقل وأبو سنّة. كنتُ قد قرأت وسمعت من نقّاد هذا الجيل عن مقالب أمل دنقل في أقرأنه، وخاصّة أبو سنّة، الذي كان هادئاً متأمّلاً بعيداً من أجواء الصراعات والنميمة، فسألتُه، في غير براءة، عن رأيه في أمل، فكان إيجابياً، وقال، بصدق، إن أمل كان شاعراً فذّاً، يشتغل على القصيدة، ويمنحها اهتمامه كلّه، روحه، ويومه، وجلستَه في المقهى، وصحّته، وأنه كان يستحق أكثر من وظيفة بسيطة في منظّمة التضامن الأفرو - آسيوي، لا تكفيه، ولا تخدم موهبته. سألته عن محمود درويش فقال ببساطة: "أكثر شاعر أهميةً في جيلنا، والسبب ليس موهبته فحسب، فأمل مثلاً يفوقُه، لكن درويش صادف دعماً مستحقّاً صرفه عن أيّ شيء سوى إبداعه".
يحكي لي عن تجربته في كتابة الأغاني، حين سمعه أحدهم في المقهى، هو وسيد حجاب، فطلب منهما كتابة أغنيات مسلسل إذاعي، ففعلا، وذهبا لقبض المكافأة، فإذا بها ثلاثة جنيهات لكلّ منهما. يقول: "نبّهتني سعادتي بهذا المبلغ إلى خطورة هذا الطريق، خاصّة أن الأغنيات بالعاميّة، وأنا أكتب الفصحى، فقرّرت أن تكون الأولى والأخيرة، واخترتُ الشعر".
تعدّدت اللقاءات، وازداد إعجابي بالرجل "الحقيقي"، الذي يساوي أفكاره، من دون أدنى ادّعاء، وهو أمر نادر، ليس في الأوساط الأدبية وحدها، بل في زماننا. "قلت أحاور قلبي/ ما معنى الجنّة يا قلبي؟/ قال تجوّل في نفسك حتى تصل إلى الإنسان/ وتجوّل في الإنسان إلى أن تصل إلى وطنك/ وتجوّل في وطنك حتى تصل إلى الله/ قلت وما معنى النار؟/ قال خواء الأشياء من المعنى/ أن تصبح شيئاً كالأشياء.. يشرى ويباع/ أن تنصاع إلى ما لا يُدخلك إلى ذاتك/ أن تسكنك الأشياء الباردة الإيقاع".
لا ينشغل أبو سنّة بصنع أسطورته، خارج قصيدته، لا يتملّق ناقداً أو صحافياً، لا يتسوّل دراسة أو خبراً، إنّما ينشغل بضميره، بمراقبته، وصقله، فـ"الضمير هو الوعي بالعالم، الوعي الأخلاقي، والوعي المعرفي، والوعي الجمالي".. من هنا يقرأ، ليس من أجل القصيدة وحدها، إنّما من أجل ضمير الشاعر، يقرأ في الفلسفة، وفي المسرح، وفي الرواية، وفي علم الجمال، وحين أسأله عن الدين يقول مبتسماً: "نشأتُ أزهرياً، ريفياً، وحفظت القرآن طفلاً".
رحل أبو سنة عن عالمنا، قبل يومين، عن عمر يناهز 87 عاماً، وترك 12 ديواناً، ومسرحيَّتَين، بالإضافة إلى دراساته النقدية وترجماته. "البحر موعدُنا وشاطئُنا العواصف/ جازف/ فقد بعد القريبُ ومات من ترجوه واشتدّ المخالف/ لن يرحم الموجُ الجبان ولن ينال الأمنَ خائف/ القلب تسكنه المواويل الحزينة والمدائن للصيارف/ خلت الأماكن للقطيعة/ من تعادي أو تحالف؟/ جازف ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي/ ولا أن يُصلح الأشياءَ تالف/ هذا طريق البحر لا يفضي لغير البحر/ والمجهول قد يخفى لعارف/ جازف فإن سُدّت جميع طرائق الدنيا أمامك فاقتحمها/ لا تقف/ كي لا تموت وأنت واقف".