عن المُتصهينين العرب
ليس ضرورياً أن تكون يهودياً أو إسرائيلياً حتى تنطبق عليك صفات الصهيونية، فالصهيونية عقيدة وفكر مترسّخ ومتجذّر ينتقل من جيل إلى جيل، ومن شخص إلى آخر، بغض النظر عن الجنسية واللون والدين. لذلك ليس تجنّياً أن نطلق على بعض من العرب من أدباء وروائيين وإعلاميين وباحثين ومشايخ ومشاهير المتصهينين العرب، فمن هؤلاء من أصبحوا أكثر صهيونية من بعض الإسرائيليين، بعد أن بلغ خطابهم من السقوط ما يثير السخرية والاشمئزاز. وعلى الرغم من أنّ التسمية قد تكون صادمة ظاهرياً، وتحمل مركّباً شديد التناقض (صهيونية + عرب)، إلا أنها تسمية واقعية، تعرّي آخر بقايا منتجات أغلب الأنظمة الاستبدادية العربية بعد الانجراف في وحل التطبيع، بعد أن أخذت تشجّع بعض مثقفيها ونخبها المأجورة لترويج مسألة التطبيع وقبول التعايش مع إسرائيل.
كانت عملية طوفان الأقصى التي كسرت نظرية الأمن الإسرائيلية، وأسطورة الجيش الذي لا يُقهر، بعد أن أذلّته وحطّمت كبرياءه، وأذاقته ما لم يذقه منذ أكثر من أربعة عقود، سبباً في كشف هؤلاء المتصهينين العرب، والذين كانوا يعيشون بيننا وفي دولنا ومدننا وبلداتنا وأحيائنا، منذ سنوات، بعضهم مطيع للكيان وداعم له في العلن، وكثير منهم داعم له في الخفاء، والذين لم يكونوا ليجرؤوا في السابق على الظهور بهذا الشكل العلني الفاضح والوقح، لكنهم أخيرا لم يكتفوا بالظهور، بل أصبحوا يفتخرون بصهيونيّتهم، فتراهم وتسمعهم ينهشون في لحم الفلسطينيين، ويحمّلونهم مسؤولية ما يجري في قطاع غزّة، ويتحدّثون عن أحقية إسرائيل بالدفاع عن نفسها، ويدافعون عنها، ويقدّمون مبررات لجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد الفلسطينيين، ويتعاطفون مع الأسرى الإسرائيليين، ويترحّمون على قتلاهم، ويساوون بين القاتل والمقتول، وبين المحتل والمقاوم، ويحمّلون حركة حماس مسؤولية هذه الجرائم، بدعوى أنّ الحياة كانت وردية في قطاع غزّة، لولا استفزاز "حماس" الجيش الإسرائيلي الوديع والمسالم، ودفعه إلى التحرّك ضد المسلحين الفلسطينيين الذين هاجموا المستوطنات والقواعد الإسرائيلية بلا مبرّر، متناسين أنّ الصراع مع إسرائيل هو صراع وجود لا صراع حدود، وأنّ ما حدث في 7 أكتوبر ردّ فعل فلسطيني على سلسلة طويلة من الاعتداءات والمجازر الإسرائيلية المتكرّرة ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، والتي بدأت منذ أن حطَت أقدام الصهاينة على أرض فلسطين.
مصائر الشعوب والأمم وما تمر به من حادثات الدهر لا تعدو إلا أن تكون جزءاً من قدر الله وقضائه في كونه لا ينازعه في ذلك منازع ولا يشاركه فيه بشر
لذلكن يمكن القول إنّ ظاهرة المتصهينين العرب لم تكن قط أمراً طارئاً، ولن تكون كذلك، فهي تشكّل تياراً واضحاً يكبر ويترعرع بيننا، ويزداد قوةً وحضوراً وتأثيراً، له أجندته المحدّدة والمدعومة داخلياً وخارجياً، وخصوصاً من تيار الشعوبية الجديدة، والذي نشأ من خلال تحالف الشعوبية القديمة مع نخبٍ شعوبيةٍ شرقيةٍ تتلمذت في مدارس الاستشراق، وأعجبت بأطروحاتها العصرية المستجلبة، فحمل على عاتقه، بالتواطؤ مع بعض الأنظمة العربية المطبّعة، بث الشكوك والشبهات وتبرير الخيانة، فتعاظم دوره بشكلٍ واضحٍ، وخصوصاً بعد عملية طوفان الأقصى، فصرّحوا وباحوا وأفتوا وأعلنوا وقوفهم إلى جانب إسرائيل ضد "حماس" وضد حركات الإسلام الإسلامي، وإلى كل ما يمتّ إلى الإسلام والعروبة بصلة، فهذه المواقف لا يمكن أن تصدُر إلا من شعوبي استبطن النفاق في قلبه، أو باع ضميره في سبيل عرض من الدنيا زائل، لذلك بدت البغضاء من أفواه هؤلاء المتصهينين العرب، ومن أقلامهم المسمومة والمأجورة في طعنهم أمتهم ودعوتهم المسلمين من أبناء وطنهم إلى التخاذل وإعلان الولاء للصهاينة بصور متعدّدة، ودعم طغيان جيش الكيان المحتل ضد أبناء فلسطين وغزّة، الأمر الذي يتطلّب الصحوة وعدم الاستخفاف بهذا التيار أو التقليل من شأنه وتأثيره، لأنّ أهدافه في الداخل والخارج أصبحت واضحة وضوح الشمس، تتمحور حول إنهاء الصراع مع الكيان الإسرائيلي شعبياً بعد إنهائه رسمياً. لذلك تراهم في أوقاتنا هذه لا يألون جهداً وهم يخوّنون من يرفع السلاح في وجه إسرائيل، ويحاولون إيجاد حالة من اليأس والإحباط، ويروّجون مبادرات تنطلق من الرؤية الصهيونية، ومن شروطها القائمة على تصفية القضية الفلسطينية ونزع السلاح من دون قيد أو شرط.
ختاماً، يمكن القول إنّ مصائر الشعوب والأمم وما تمر به من حادثات الدهر لا تعدو إلا أن تكون جزءاً من قدر الله وقضائه في كونه لا ينازعه في ذلك منازع ولا يشاركه فيه بشر، تلك حقيقة إيمانية لا تقبل التشكيك أو المحاججة. لذلك، كل من يخرج علينا من المتصهينين العرب بعد "طوفان الأقصى" لإحداث حالة من الإحباط واليأس والتخوين والاستخفاف بالإنجاز وتسفيه العملية، ويشكك في قدرات البشر على تجاوز المحن، مثله كمثل العاهرة التي تُحاضر بالعفّة.