عن انبهار عربي بتوماس فريدمان
انبهار مسؤولين ومثقفين وصحافيين عرب بالكاتب الأميركي توماس فريدمان غير مفهوم، أما التعامل مع تحليلاته على أنها منارة للفهم، وترديدها، بالرغم من وضوح عدائه لقضايا العدالة والقضية الفلسطينية وتأييده الحروب الأميركية فمثيرٌ للاستهجان. وهذه ليست دعوةً إلى مقاطعة قراءة مقالاته في صحيفة نيويورك تايمز، بل على العكس، فالقراءة مصدر مهم لفهم ما يدور حولنا، أكان الكاتب عدوا معلنا أو صديقا موثوقا. لكن الإشكالية تبدأ في كيفية قراءة مقالات كتّابٍ، وبخاصة ممِن ينفذون أجندة غير مخفية تُعادي تحرّر الشعوب، وتوماس فريدمان لم يخف توجّهاته أبدا، ولكن هناك من يختار جملا من مقالاته تروقُه، ويضفي عليها معاني تجعل من فريدمان حكيما ومناديا بالتحرّر والعدالة للقضية الفلسطينية، فيما لا يخفي هو تأييده الكامل إسرائيل.
تبدأ المشكلة حين ينتقد فريدمان إسرائيل، وهو فعلا ينتقد الحكومات الإسرائيلية، وكان معارضا شرسا لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو، وناقدا لليمين الإسرائيلي المتطرّف، ومؤيدا للصهيونيين إيهود باراك وشمعون بيريس، وكان صديقا شخصيا لهما، إذ انحاز دائما إلى حزب العمل قبل أفول نفوذه، لكن فريدمان، وتوخّيا للموضوعية، كان صريحا دائما بشأن التزامه بما يخدم إسرائيل .. وعليه، تجب قراءته ممثلا لتيار صهيوني في أميركا يخاف على إسرائيل من "شطحات قيادتها"، أو صوتا لهذا التيار، بالضبط كما كان فريدمان يخاف على أميركا وقوتها من الرئيس السابق دونالد ترامب وسياساته المغامرة، لا يعارض المشروع الصهيوني ولا الهيمنة الأميركية وحروبها، بل يدفع باتجاهها ويشارك، في مقالاته، في تسويغ مبرّرات العدوان والغزو كما فعل في العراق وأفغانستان، من دون مواربة أو اهتمام بحقوق الإنسان أو القوانين الدولية، فهو مؤمنٌ بالإمبراطورية الأميركية، وله أفكار قد تتعارض أحيانآ مع سياساتٍ تضرّ بتفوق أميركا الحضاري والعسكري، وعلى حساب البلدان والشعوب.
وضوح فريدمان لم يؤثر على شعبيته في العالم العربي، قد يعتبرها بعضهم دليلا على أنه وطني أميركي وصهيوني مخلص
في كتبه ومحاضراته ومقابلاته، أصبح فريدمان من أهم دعاة "العولمة الاقتصادية"، أو بتعبير آخر "الليبرالية الجديدة"، إلى درجةٍ تخاله متحدّثا رسميا باسم الرأسمال العالمي، يكون لبقا ودمثا أحيانا، وعدائيا في مرّات أخرى، فلا مجال عنده للمساومة بشأن ضرورة فرض الشروط الاقتصادية والهيمنة الأميركية على العالم، متأثرأ باعترافه بملهمه المؤرّخ مايكل مندلباوم، وقد ألّفا معا في عام 2011 كتابا يحذّر من تراجع قوة أميركا ونفوذها في العالم وكيفية استعادة دورها فيه، فوفقا لمندلباوم، أميركا من صنعت العالم بصورته الحالية، وعليها أن تعود إلى مصادر قوتها. وفي الكتاب المذكور، يجادل مندلباوم وفريدمان في أن "المثل الأميركية وقوة أميركا تشكل ضمانة بقاء أميركا القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولا يوجّهان أي نقد إلى حروب أميركا فكرةً وأهدافا، بل ينقدان أسباب فشل السياسات الأميركية وبعض حروبها، فالمشكلة برأيهما ليس في منطق القوة وظلم الشعوب الأخرى، وإنما باجتراح سياساتٍ تضمن نجاح غزوات أميركا وحروبها.
لكن وضوح فريدمان لم يؤثر على شعبيته في العالم العربي، قد يعتبرها بعضهم دليلا على أنه وطني أميركي وصهيوني مخلص، يريد الأفضل لبلده وقضيته الصهيونية، وهذا الاستنتاج قابل للجدل؛ فهل هذا يعني أن من يؤيد حروب أميركا من كتاب ومثقفين مخلصين، ومفكرين بوزن نعوم تشومسكي والمؤرخ الراحل هاورد زين، غير مخلصين لمعارضتهما المبدئية للسياسات الأميركية والصهيونية؟ إذ يبدو أن هناك من لا يفرّق بين دعاة الحروب المستفيدين من النظام الرأسمالي وليسوا معنيين حتى بحقوق المواطن الأميركي، وبين المثقف الذي يخاف على بلاده من إنفاق ضرائب مواطنيها على الحملات العسكرية الغازية للشعوب.
فريدمان لا يريد المسّ بالمشروع الصهيوني، بل يسعى إلى إنقاذه
ما هو معيار تقييمنا الكاتب والمثقف، وكيف نرضى أن نكون المتلقي لكاتب، مثل فريدمان وغيره، نعيد كلامه وعباراته وكأنها رسائل ملهمة وثورية لخلاص شعوبنا؟ مناسبة هذا الحديث عن تبجيل سياسيين ومسؤولين وكتاب عرب توماس فريدمان، مقال نشره في "نيويورك تايمز" بعنوان "فقط السعودية وعرب إسرائيل يستطيعون إنقاذ الديمقراطية اليهودية"، يقول فيه إن مشاركة حزب فلسطيني برئاسة منصور عباس، غير المسبوقة، في ائتلاف حكومي إسرائيلي، إذا ثبت أنها توجّه مستقبلي للأحزاب العربية في إسرائيل، بالإضافة إلى إعلان اتفاقية تطبيع بين السعودية وإسرائيل، التي يقرّ أنها معطّلة نتيجة تعلق الملك سلمان بالقضية الفلسطينية، سيؤديان إلى واقع جديد، ينقذ الديمقراطية الإسرائيلية من الانهيار، وبالتالي إلى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ففكرة مشاركة عربية فلسطينية في ائتلاف صهيوني يؤيد ضمّ المستوطنات، وليس مستعدّا للقبول بالحقوق الدنيا للشعب الفلسطيني، ودخول السعودية، بمكانتها السياسية والدينية، ستنهي الصراع وتزيل عن إسرائيل صفة الأبارتهايد، التي يعترف فريدمان "بأن إسرائيل تقترب منها".
طرح المقال فكرة أثارت نقاشا لدى بعض الأوساط في العالم العربي، إذ تناولها بعضهم على أنها فكرة إيجابية ومعقولة، إذ تحدّث فريدمان عن "ضرورة إنهاء الاحتلال" وسيطرة إسرائيل على الفلسطينيين، ما يصمها بالأبارتهايد، ولكن هذا، في رأيه، يتطلب دخول فلسطينيي الـ1948 في حكومات صهيونية، وتطبيعا سعوديا على شاكلة "الاتفاق الإبراهيمي"، مع ما يرافقه من قبول بالرواية الصهيونية وبحقوق الشعب الفلسطيني، لتحقيق "سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل". ما يقوله فريدمان ليس خطة لإنهاء الاحتلال، بل خطوات تنفيذية لما أعلنه الرئيس جو بايدن عن هدف دمج إسرائيل في المنطقة، وإلى قبول الفلسطينيين بالمشاركة في تنفيذ المشروع الصهيوني.
طبيعيٌّ أن فريدمان لا يريد المسّ بالمشروع الصهيوني، بل يسعى إلى إنقاذه، ففريدمان ومندلباوم، ومثلهما دينيس روس وروبرت ساتلوف ودايفيد ماكوفسكي ودايفيد شينكر، وآخرون ممن يُحتفي بزياراتهم مثقفون ومسؤولون عرب، كما توضح كتاباتهم وتصريحاتهم في الصحف، يدعون إلى التوصل إلى اتفاقية إسرائيلية – فلسطينية تنتج كيانا ممسوخا تحت اسم "دولة فلسطينية"، منزوعة السلاح والسيادة، وتبقى تحت سيطرة إسرائيل، وذلك كله مشروط بالتخلي عن القدس، والتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني.
من يتابع فريدمان يعرف أنه يدعو إلى إخضاع الفلسطينيين للقبول بما يسمّى حلاً نهائياً بشروط سياسية أمنية إسرائيلية
من يتابع فريدمان، والكتّاب المؤثرين القريبين من دوائر صنع القرار الأميركي، يعرف أنهم يدعون إلى إخضاع الفلسطينيين للقبول بما يسمّى بحل نهائي بشروط سياسية أمنية إسرائيلية، لا تخلّ بهيمنة إسرائيل، فالمطلوب تصفية القضية، والتطبيع الكامل مع إسرائيل الذي وصفه فريدمان "بالجائزة الكبرى"، وهو عبّر بذلك بدقة عن السياسة الأميركية، تكتمل حلقاته فيعزل الفلسطينيين وينزع الشرعية العربية، بل والدينية، عن القضية الفلسطينية، أملا في انهيار الموانع العربية بعد دخول الرياض في تحالف تطبيعي أمني عسكري اقتصادي، يجري التأسيس له خطوة خطوة، يجعل من إسرائيل قائدة المنطقة، ولا مكان في هذه المنطقة لقضية فلسطينية أو حقوق عربية. المفارقة المثيرة أنه فيما ينبري مثقفون وفنانون أميركيون لمواجهة إسرائيل، بكل شجاعة، لا يزال مسؤولون ومثقفون عرب متعلقين بأي كلمة يتفوه بها فريدمان وحماة اسرائيل.
في مقالته، اتهم الطلبة الفلسطينيين في الجامعات الأميركية بنشر دعاية ومعلومات "غير صادقة ضد إسرائيل"، أي بالدفاع عن قضيتهم وفضح إسرائيل، ففريدمان لا يرتدي قناعا، لكن الفكر المهزوم ينتظر الخلاص، أي أن يأتيه من "رقي المستعمر"، المقاومة تبدأ بمقاومة فكرة المستعمر، فلا مجال لوهم أو خنوع.