عن جرائم للاحتلال ترفد أركان الإبادة الجماعية

06 يناير 2024
+ الخط -

رفعت جنوب إفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحقّ الشعب الفلسطيني، وهذا الموقف، الذي لم يبدأ مع العدوان الجاري على قطاع غزّة، إنما قبله، يحسب لهذه الدولة التي تحترم تاريخها وإرثها، وتختار الموقف الأخلاقي في ما يخصّ قضايا الشعوب، في وقت ما زال فيه وصف جرائم إسرائيل بالإبادة الجماعية محلّ نقاش على مستوى العالم، على الرغم من توفّر الأدلّة والبراهين الدامغة لحظة بلحظة، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة على الأقل، حتى في أوساط النخب الثقافية، ومن بينها أيضًا دول عربية تتحاشى إدراج هذه التسمية في خطاباتها ومنابرها الإعلامية، كما لو أن التوصيف انتهى في مساره التاريخي منذ إطلاقه في الاتفاقية العالمية لمنع الإبادة الجماعية لعام 1948، لتصبح في الذاكرة والوعي العام العالميين تعني "الهولوكوست" فحسب، أو لتصبح المعنى المرادف للمحرقة التي ارتكبتها النازية بحقّ اليهود، علمًا أن تاريخ البشرية حافلٌ بجرائم الإبادة الجماعية، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين زاخر تاريخُه بجرائم يمكن وصفها بالإبادة.

وهذه الجريمة التي نصّت عليها أيضًا المادة السادسة للنظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية في 1998 موصوفة، لها عدة معايير أو أركان، وهي تعني أيًّا من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكامل، أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو دينية، وذلك بقتل أفراد من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأفراد من هذه الجماعة، إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُراد منها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًا، وفرض تدابير تحول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، ونقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى. كل أركان الجريمة متوفّرة في ممارسات إسرائيل الإجرامية بحقّ الشعب الفلسطيني في حربها الحالية، وبحقّ الفلسطينيين في الضفة الغربية أيضًا.

لكن لو استعرضنا تاريخ إسرائيل منذ قيامها، دولة محتلّة، بل وقبلها بما سطّرت العصابات الصهيونية من مجازر وتهجير لسكان البلدات والقرى والفلسطينية، لوجدنا ممارساتٍ أخرى تقوم بها إسرائيل تستبطن النيّة في الإبادة، من دون أن تُدرج من أركان الجريمة، منها الضرب بعرض الحائط كل بنود القانون الدولي الذي يُلزمها، لكونها سلطة احتلال، بالمسؤولية تجاه الشعب المحتلة أرضُه، وتجاه البيئة التي يعيش فيها، وإن هذا الانتهاك للبيئة ومصادر العيش تهديدٌ وجودي، يؤدّي، في النهاية، إلى التدمير المادي للشعب الفلسطيني.

يعاني سكّان قطاع غزّة من العطش وحرب المياه، إن في وقت الحصار أم في الحرب الحالية

قبل كل شيء، لم تكفّ إسرائيل منذ تأسيسها وإعلانها دولة، عن الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات لليهود القادمين من كل بقاع الأرض، فالمشروع الاستيطاني، بعدما احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين التاريخية (الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزّة) في 1967، يتوسّع حتى يقارب عتبة المليون مستوطن، ويشار إلى أنها دمّرت 160 كيلومترًا مربعًا من الغابات لإقامة مستوطنات لها في الأراضي المحتلة في 2014. ما حرم الفلسطينيين، ليس فقط من أرضهم، إنما من أنشطتهم الزراعية التي كانت تشكل ركنًا مهمًّا من اقتصادهم ومعيشتهم، والقضاء على مساحات خضراء وغابات وأشجار مثمرة، كانت تشكّل جزءًا من هوية المنطقة جغرافيًّا وتاريخيًّا. ليس هذا فحسب، بل تستولي على المياه لصالح المستوطنات على حساب الفلسطينيين، ففيما تقدّر منظمة الصحة العالمية حاجة الفرد اليومية من المياه في حدّها الأدنى مائة ليتر، فإن المواطن الفلسطيني لا يحظى، في أحسن الحالات، ب80 ليترًا في المتوسّط، مقابل 260 ليترًا للفرد الإسرائيلي، وهذا في الحالات العادية. أما هذه الأرقام بالنسبة للفلسطينيين ففي تراجع، بل يعاني سكّان قطاع غزّة من العطش وحرب المياه، إن في وقت الحصار أم في الحرب الحالية، وذلك بالتحكّم بمصادر المياه، أو بقصف محطات التحلية وتدميرها، كذلك بالنسبة إلى المياه المالحة أو مياه الصرف الصحي، ففي وقت الحصار وما ينجم عنه من تقييد على المواد المستوردة أو الداخلة إلى غزّة، فإن معالجة مياه الصرف الصحي أو المياه المالحة لا يتم بالشكل الفعّال، وبالتالي، يتم صرف معظمه في البيئة، إما بلا معالجة أو بمعالَجة جزئية. ويقدّر ما تنتجه غزة بنحو 160 ألف متر مكعب يوميًا من مياه الصرف أو أكثر، ثلاثة أرباع منها لا يزال غير مُعالَج بكفاءة وفعالية، ما يضرّ بالبيئة الحيوية في كل مجالاتها، كذلك اللجوء إلى تصريفها في البحر يزيد من المشكلة البيئية. هذا عدا التلويث البيئي بمخلفات المستوطنات التي توجّه باتجاه أراضي الضفة والقطاع، وعدا التلوّث البيئي بالمواد الكيماوية والمخلّفات الإشعاعية، فالمصانع الكيماوية والنووية الإسرائيلية تُطلق مواد مشعّة ومواد كيماوية سامّة في الضفة الغربية وغزّة، كما بينت الدراسات، إلى جانب تقارير عن مطامر لدفن النفايات المشعّة في أنحاء الضفة الغربية وغزّة، وارتفاع عدد الأطفال المصابين بالإعاقات والتشوّهات وأمراض السرطان في المنطقة.

تقارير عن مطامر لدفن النفايات المشعّة في أنحاء الضفة الغربية وغزّة، وارتفاع عدد الأطفال المصابين بالإعاقات والتشوّهات وأمراض السرطان في المنطقة

هذه الممارسات التي دأب الاحتلال على القيام بها، والتي تصبّ جميعها في خانة انتهاك الحقوق والتضييق على العيش والتمادي على الأراضي في محاولة تصحيرها، ما يفقد آلاف الفلسطينيين المزارعين مورد رزقهم، تنجُم عنها أخطارٌ مباشرة، منها ما يمكن توصيفه بالتطهير، وترمي إلى أهداف مبطّنة، وهي التهجير، ويمكن عدّها محاولةً لبتر علاقة الفلسطينيين بأرضهم وكسر نفسيتهم.

أليس كل ما سبق، وهو غيضٌ من فيض إجرامي بحقّ السكان الفلسطينيين "الأصليين"، يشكّل ركنًا أساسيًّا من جرائم ضد الإنسانية؟ جرائم إبادة جماعية مخاتلة، قد لا ينتبه إليها العالم، أو ربما لا تحدث صورها وأخبارها صدمة في الوعي العالمي لدى الشعوب، أمام الجرائم الفاجرة التي تمارسها إسرائيل في حربها الوحشية اليوم على قطاع غزّة، حيث تنقل الصور والمشاهد من ميدان الحرب مباشرة، وتظهر الويلات الجماعية التي يتعرّض لها المدنيون، والتي لا يمكن عدّها، بأي شرعة، أخطارًا جانبية تنجم عن الحروب، فهي أخطار لكنها ليست جانبية، بل هي بؤرة الحدث الذي يرمي إلى تهجير الفلسطينيين، ولا يُخفى هذا الهدف بل صرّح به عديد من المسؤولين والوزراء في حكومة الكيان المحتل، وقطع صلاتهم بأرضهم، عن طريق الذهاب بالوحشيّة والقتل الجماعي إلى أقصى حالاته وأشدّها تطرّفًا.

هل تنضم دول أخرى إلى جنوب إفريقيا في رفع دعاوى من هذا النوع على إسرائيل؟ وماذا عن الدول العربية؟ هذا واحد من المرتكزات الرئيسية التي تحتاجها قضية الشعب الفلسطيني من أجل عدالتها وأحقّيتها.