عن حرَج لجنة تحكيم "أمير الشعراء"
شاهد الملايين زلَّة رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، علي بن تميم، وهو "يصحِّح" للشاعر الليبي، عبد السلام سعيد أبو حجر، ما توهَّمه غلطاً نحْويّاً، حين قال الشاعر: "ويعجبني في الذكريات سخاؤُها"، ظنّاً من "المصحِّح" أنَّ الصواب: "سخاءَها"، على أنها مفعول به، رغم توضيح الشاعر المتسابق في برنامج "أمير الشعراء"، في موسمه العاشر، أن الكلمة فاعل. وكان لافتاً مرور هذه الهفوة على عضوي اللجنة، حتى إن أستاذة النقد الأدبي الحديث في أكاديمية الفنون بالقاهرة، أماني فؤاد، ذهبت إلى أن حقَّ الكلمة هو الجرّ: "سخائها"(!). وضحك عضو اللجنة الثالث، أستاذ السيميائيات وتحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس بالرباط، محمد حجّو، ولم يصدر عنه موقف معارض لهذه الهفوة البيِّنة.
وبعد أن اتّضح حجم الأثر الذي أحدثه هذا الموقف الغريب، عقّب علي بن تميم، على حسابه في تويتر: "كلنا يعرف قول الله في كتابه العزيز "ولا تعجبك أموالُهم وأولادُهم"، لكننا في مسابقة، ومن الطبيعي امتحان قدرات الشاعر بأسئلةٍ مختلفة. وما طلبناه منه لون من اختبار الأعصاب، بعد إجازته للتثبت، فالمسابقة هي امتحانٌ لقدرات المتسابقين، ويبدو أنها نجَحت في أن تكون امتحاناً لاختبار قدرات المتعالمين".
زاد هذا الردّ الطِّين بِلَّة، وكشف عن أبعاد نفسية، وأخرى سُلْطوية، ربما، لا تخلو من تعالٍ. وكان مِن أبرز المستائين أستاذ في اللسانيات والنقد، سعد عبد العزيز مصلوح، الذي عقّب على حسابه في "تويتر"، مستهجناً ومستنكراً: "خالصة قول رئيس لجنة تحكيم "أمير الشعراء" في ردِّه هو أن من لا يميِّز الفاعل من المفعول من أمثاله هو "العالم"، والذي ينبِّهه إلى سقطته الكارثية مِن أمثالنا هو "المتعالم". أتُراك تُخاطب أطفالاً، يا رجل؟ ألم تعلم بأن الحياء من حسن إسلام المرء".
صحيحٌ أن للتخصّص متطلباته، من حيث العُكوف على مناهج الأدب والنقد، ولكن بعد الإلمام إلماماً كافياً بعلوم اللغة
لم ينطلِ هذا التبرير على أكثر الناس، والصحيح أن هذه القصة تستحق التفكير؛ لأنها تثير ثُنائية السلطة والفكر، إذ انحاز عضوا اللجنة إلى علي بن تميم، مع أن الصواب فيه واضحٌ لمن لديه حظٌّ أوَّليٌّ من اللغة وقواعدها. وإذا صحَّ أنّ اللجنة، فعلاً، وبالإجماع كانت، وقتها، مقتنعةً بذلك الخطأ، وأنها لم تتفطَّن للصواب، فالمصيبة لا تقلّ كارثيَّة، على حدِّ وصف مصلوح، ذي القامة العلمية الراسخة؛ إذ كيف تخلو لجنةٌ مُعَدَّة للنظر في الشعر مِن عارفٍ باللغة ونحوها وصرفها، واللغة هي مادّة الشعر، مادّة تشكيله، ووسيلة الإبانة فيه، والتأثير.
ومهما يكن، من ملابسات هذه الحادثة، فإنها تؤكِّد قواعديَّة النحو واللغة، ومعياريّتها، بما لا يجوز إغفالُها، أو التهوين بها، أو تجاوزها، أو التلاعب بها. صحيحٌ أن جهوداً محقَّة تُبذل من أجل تيسيرها، للطلبة من أبنائها، وللراغبين بتعلُّمها من الناطقين بغيرها، إلا أن هذه الجهود لا ينبغي أن تمسَّ قواعدَها المتَّفَق عليها، والجاري عليها الكلام العربي، وآداب العرب، والقرآن الكريم؛ ذلك أن أيَّ إخلالٍ ببناء هذه اللغة، وبنظامها، يتطلب بناء نظامٍ بديل، وهذا عبث؛ لأن اللغة هي نظامها، أو أنها لا تنفكّ أبدًا عن نظامها. والعربية بهذا الوصف هي التي توحِّد أبناءها، في مشارق البلاد العربية ومغاربها.
ومسألة أخرى، تأتي استطراداً، بدعة الفصل بين الأدب والنقد العربي من جهة، واللغة وعلومها، من جهة أخرى، فصلاً مُخِلّاً، متعسِّفاً. صحيحٌ أن للتخصّص متطلباته، من حيث العُكوف على مناهج الأدب والنقد، ولكن بعد الإلمام إلماماً كافياً بعلوم اللغة.
كان يمكن للناس أن يقيلوا عثرة اللجنة، لو ارتقت إلى الاعتراف، الشجاع، وانحازت إلى مسؤولية الكلمة
وعوداً إلى جدل الصواب والخطأ، يظهر أن اللجنة وقعت بين مُرَّين، مُرِّ سقوط الهيبة وخدش الأهلية، ومُرّ المكابرة. بعد الأُولى علمي، بالدرجة الأولى، وبعد الثانية نفسي، لا يخلو من أبعادٍ سياسية، وسلطوية، بين الهيئات الحاكمة، والأفراد المُجَرَّدِين من تلك السلطة، أو الخاضعين لها. وكان يمكن للناس أن يقيلوا عثرة اللجنة، لو ارتقت إلى الاعتراف، الشجاع، وانحازت إلى مسؤولية الكلمة، في برنامجٍ يعلي من شأن الكلمة.
كان يمكن أن يعدَّ هذا الخطأ من قبيل اللحن، ومن سقطات العلماء. وكان أفصح العرب يتهيَّب اللغة، كما الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان، ولم ينجُ من هفوات النحو زعماء من العهود الأولى، قبل أن يفسُد اللسان، أو يستفحل فسادُه، كما روي عن الحجاج بن يوسف الثقفي، أنه قال ليحيى بن يعمر: أتجدُني ألحن؟ قال: الأمير أفصح من ذلك. قال عزمتُ عليك لتخبرني، وكانوا يعظّمون عزائم الأمراء، قال يحيى بن يعمر: نعم، في كتاب الله، قال ذاك أشنع له، ففي أي شيءٍ من كتاب الله؟ قال: قرأت: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..." فترفع "أَحَبَّ"، وهو منصوب، قال: إذاً لا تسمعني ألحَن بعدها؛ فنفاه إلى خراسان.
وهنا أيضاً لم يُطِق الحجاج التخطئة؛ فسارع إلى استعمال السلطة، لكنه لم يُنكر أنه كان يلحَن.