عن حوارات المعتقلين السياسيين في مصر
لا يكاد الاعتقال السياسي في مصر يتوقف منذ قيام الانقلاب العسكري المشؤوم في 3 يوليو/ تموز 2013، بل يزداد توسّعًا من أمن نظام عبد الفتاح السيسي الذي يرسخ سلطويته يومًا بعد يوم، بفعل عوامل عدّة، أهمها القبضة الأمنية الداخلية، وقمع المعارضين السياسيين والمواطنين غير المسيسين، وقد امتد قمعه ليصل حتى إلى حلفائه ممن يخشى تأثيرهم، أو يريد إبعادهم عن المشهد السياسي، وعبر إغلاق أي فرصةٍ سياسيةٍ أو غير سياسيةٍ من الممكن أن تُشكّل مدخلًا لمعارضته، أو اهتزازًا لنظامه الهشّ. ويستخدم النظام في ذلك كل المتاح من أدوات قمعية وحشية ومقننة، وفي مقدمتها الاعتقال السياسي والإخفاء القسري والتصفية الجسدية، والتحفّظ على الأموال والمنع من السفر، .. إلخ.
وطوال سبع سنوات ونصف السنة هي عمر الانقلاب العسكري، لم تشهد قضية المعتقلين حلًا سياسيًا أو إنسانيًا يُذكر، بل لم يتم تقديمَ مقترحٍ لحلِّ قضية المعتقلين السياسيين يكون ذا طابع جاد وواقعي، سواء من القوى السياسية المعارضة في المنفى، على اختلاف أيديولوجياتها وتوجهاتها ودرجة معارضتها نظام السيسي، أو من الحكومات الغربية التي لم توقف دعمها السياسي أو العسكري للسيسي مقابل تعهده بالقضاء على الإسلاميين، أو صفقات الأسلحة المليارية، أو وقف مراكب الهجرة نحو شواطئ الجنوب الأوروبي، وكذلك من المنظمات الدولية الحقوقية والأممية. ولم تخرج التحرّكات في قضية المعتقلين السياسيين عن مطالبات ومناشدات، وبعض تدخلات في حالات فردية، تبعًا للضغوط في دول غربية، أو تبعًا لجنسيات معتقلين أحرجوا الحكومات التي يحملون جنسيتها. وقد خلت كل التحرّكات المعارضة في الخارج من ممارسة الضغط السياسي الفاعل على دوائر صنع القرار في الدول الغربية بشكلٍ قد يأتي بنتيجة، إذ لم تملك القوى المعارضة المصرية في الخارج تنظيمًا عابرًا للأيديولوجيا، يستطيع التعبير عن إرادة جموع المعتقلين السياسيين ورغبتهم، ويستطيع كذلك ممارسة الضغط السياسي على حكومات البلاد الديمقراطية التي ترتبط بعلاقاتٍ مؤثرةٍ وعميقةٍ مع النظام المصري، وليس فقط المناشدات الحقوقية أو الحملات الإعلامية التي تمثّل عنصرًا أساسيًا في مسار قضية المعتقلين السياسيين، لكنها لا تكفي وحدها من دون التحرّك السياسي المنظّم في الخارج، والذي يملك أوراق ضغط فقدتها المعارضة المصرية بشكل تدريجي عبر السنوات السبع الماضية.
لم تخرج التحرّكات في قضية المعتقلين السياسيين عن مطالبات ومناشدات، وبعض تدخلات في حالات فردية
وعلى الجانب الداخلي المصري، تزداد معاناة المعتقلين سوءًا وتعقيدًا، تبعًا لحجم قمع نظام السيسي للفاعلين السياسيين وغير السياسيين، ومقداره ومداه، حيث يصل عدد المعتقلين على ذمة قضايا سياسية قرابة 60 ألف معتقل، بينهم 1057 قضوا نحبهم داخل السجون، نتيجة التعذيب أو الإهمال الطبي أو الانتحار! وفقًا لأحدث إحصاء قامت به منظمة "كوميتي فور جستس" في الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) تحت عنوان "كم ريجيني في مصر منذ عام 2013؟".
ومع هذا العدد الهائل من المعتقلين السياسيين في مصر، والذي يزداد بشكل تدريجي ومتسارع، مرّت ظاهرة المعتقلين السياسيين في مصر بعدد من التحولات والتغيرات، ففي الأشهر الأولى التي تلت الانقلاب العسكري في 2013، كان معظم المعتقلين السياسيين ينتسبون إلى حركات إسلامية (خصوصا مع الحملة القمعية الشرسة ضد القيادات التنظيمية) أو من المتعاطفين معهم، وهم الذين تصدّروا المشهد السياسي المعارض وحيدين لأشهر بعد الانقلاب العسكري، ومن ثم بدأ نظام السيسي في توسيع رقعة القمع، ليقوم باعتقال محسوبين على القوى والنخب السياسية العلمانية التي شاركته الدعوة إلى تظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، وانقسمت بشأن بيان الانقلاب في 3 يوليو، وخصوصا بعد إقراره قانون التظاهر 107/ 2013. بعد ذلك ظهرت مجموعات راديكالية تؤمن بأن العنف الثأري وسيلة لـ مقاومة/ معارضة الانقلاب العسكري وإسقاط النظام القائم، أو على الأقل الثأر من بعض قياداته المتورّطة في القتل والتعذيب، إضافة إلى جماعات تكفيرية انتهجت العنف الشامل بذرائع عقيدية، تؤمن بأن إسقاط النظام بالعنف وإقامة نموذجهم للحكم هو الوسيلة الأكثر فاعلية.
يصل عدد المعتقلين على ذمة قضايا سياسية قرابة 60 ألف معتقل، بينهم 1057 قضوا نحبهم داخل السجون، نتيجة التعذيب أو الإهمال الطبي أو الانتحار
تجمّعت كل هذه القوى المتباينة أيديولوجيًا ومنهاجيًا بشكل تدريجي داخل بعض السجون المصرية، ما أتاح لفضاء السجن المغلق أن يشهد كمًّا هائلًا من التفاعلات السوسيوسياسية، والتشابكًات التنظيمية، والحوارات الفكرية التدافعية، والتي قد تصل نتائجها إلى حدّ التبدّل الكامل للأفكار والمعتقدات، أي بعبارة أخرى أوجدت السجون ظاهرة مكتملة من التفاعلات بين أطرافٍ، ليست جديدة على البيئة السجنية المصرية، في حيّز مكاني هو السجون المصرية، وفي فترة زمنية محددة بما بعد 3 يوليو/ تموز 2013، نُطلق عليها "حوارات المعتقلين السياسيين في مصر"، تمظهرت في عدد من الأحداث، فمنذ عام 2015، ومع اشتداد حالة الحوارات الفكرية والسياسية غير المنظمة داخل السجون، ومع زيادة أعداد المعتقلين المتكدّسة، والتي وصلت أحيانًا إلى 150% من سعة السجون المصرية العمومية، وقرابة 300% من الطاقة الاستيعابية لمراكز الاحتجاز، بدأ نتاج هذه الظاهرة (الحوارات) يخرج إلى العلن على شكل مجموعات أعلنت عن مراجعات فكرية - غير مدفوعة من النظام، ولم يكن النظام طرفًا فيها كما حدث سابقًا في فترة التسعينيات مع معتقلين ينتمون إلى الجماعة الإسلامية، أو مبادرات لإنهاء أزمات المعتقلين السياسيين، أو التبرؤ من أفكار بعينها، أو الرغبة في الحل من داخل السجون، طالما أن القوى السياسية المعارضة خارج السجون لا تمثّلهم، ولم تستطع تقديم حلّ واحد يُنهي معاناة المعتقلين.
ومع أغسطس/ آب 2019، أعلنت مجموعة من شباب المعتقلين، تغلب على خطابهم النزعة الإسلامية عن إطلاقهم رسائل مكتوبة لمخاطبة الفاعلين الرئيسيين في البيئة السياسية المصرية، وبعيدًا عن مضمون هذه الرسائل (يحتاج إلى تحليل عميق)، فإن ظاهرة رسائل المعتقلين السياسيين تعبّر عن تفاعلات وتحوّلات تنظيمية وفكرية تجري داخل السجون المصرية منذ سنوات، تبرهن أن حوارات السجون لا تفضي إلى التطرّف بشكل حتمي، بل ربما تدفع حوارات المعتقلين نحو الاعتدال، وتبنّي خطاب أكثر انفتاحًا وإيمانًا بالديمقراطية وقبول الآخر والحلول غير العنيفة، بل ويتعدّى الحاضر بالحديث عن نظم الحكم، وشكل الدولة والعلاقة مع الآخر السياسي والديني.
بدأ نتاج ظاهرة الحوارات يخرج إلى العلن على شكل مجموعات أعلنت عن مراجعات فكرية غير مدفوعة من النظام
تدّعي مجموعة "الرسائل" أنها تعبر عن أكثر من ألف معتقل، لهم اتصال مباشر مع بعضهم بعضا داخل مجمع سجون طُرة (تحديدًا سجن الاستقبال، وهو أحد أربعة سجون داخل مجمع سجون طرة في القاهرة) وأكثر من ثلاثة آلاف معتقل لهم اتصال غير مباشر في سجون من جنوب مصر إلى شمالها، وأنهم قد وصلوا إلى ما كتبوه في رسائلهم من قناعات ومخاطبات بعد حوارات ونقاشات امتدت لأشهر، ما يدلّ على حالة الحوار الدائمة غير المركزية بين قطاعات المعتقلين السياسيين في مصر، ومنها بالطبع مجموعات لم تعلن عن نفسها، أي أننا لا نستطيع حصرها في سجون المدن دونًا عن السجون الواقعة في الريف، أو أنها التزمت بحيّز جغرافي معين، كشمال مصر أو جنوبها فقط. بيد أنها انحصرت في جيل الشباب الإسلاميين الذين أعلنوا قطيعةً مع التنظيمات الإسلامية السياسية، نتيجة إفلاسها عن تقديم جديدٍ يُذكر حيال الأزمة السياسية المصرية، ووجود حالةٍ من النقاشات الحادّة داخل السجون بين الشباب والقيادات لم تخل من النقد الذاتي، ونقد مسار ما بعد ثورة 25 يناير، والقرارات المصيرية التي ساهمت في تشكّل المشهد الاستقطابي الحاد في مرحلة ما قبل 3 يوليو 2013، وبعد حواراتٍ تدافعيةٍ داخل السجون، أحالتهم إلى هذه القناعات التي تُرجمت إلى تكوّن ما يشبه العمل التنظيمي الجيلي الذي أعلن نفسه من خلال هذه الرسائل التي بلغت ثماني رسائل حتى كتابة هذه السطور.
لم تستطع مجموعة "الرسائل" على مدار 16 شهرًا ترويج نفسها بشكل كافٍ لسبب بسيط، هو عدم وجود معتقلين من المشاهير وسطهم، إضافة إلى نبذهم من جماعة الإخوان المسلمين التي وصفتهم أكثر من مرة على ألسنة قيادتها في الخارج، والمتحدّث الرسمي باسمها، بالمدفوعين من أجهزة الأمن، وتجاهل مساندة قوى علمانية عدالة قضيتهم فقط، وليس نكاية في الإخوان المسلمين، بلا أي سبب مبرّر. عانت هذه المجموعة كذلك من قلة تناولها إعلاميًا مقارنة بقضايا حقوقية/ سجنية أخرى، على الرغم من تعبير هذه الرسائل عن عدد غير محدود من المعتقلين (أكثر من ثلاثة آلاف)، وهو ما يسلّط الضوء على مسألة الانتقائية التي تؤخذ بها قضايا حقوقية/ سجنية دون أخرى، بالإضافة إلى الحاجة إلى التناول الحقيقي لمضمون هذه الرسائل التي تعطينا صورة حقيقية عمّا يحدث من حواراتٍ فكريةٍ وتحوّلاتٍ داخل السجون في ظل الشحّ المعلوماتي عمّا يحدث في الداخل.