عن رحيل برُوفِسُور "لا" العنيدة
تعرّفت إليه بدايةً عبر الأثير. كان يتحدّث من غربته في الوطن، وكنت أحاوره من منفاي القسري، ويدور الكلام عبر موجات التلفاز عن تعثر المشروع الوطني الفلسطيني. كان المرحوم عبد الستار قاسم ينطق بحروفٍ من الحرقة والألم على انهيار الحلم الفلسطيني، تقطر شفتاه حسرةً على مآلات الوضع الفلسطيني الداخلي، تنبض عضلات لسانه بحقٍّ يخفق في ضميره وقلبه، ويقول "اسمع يا ابني أنا ما بخاف من قول الحق، لا حاجة لي في دنيا فانية، ولا مطمع لي في دولة خالية من الكرامة". تمضي سنون قليلة، وألتقيه خلال زيارتي اليتيمة إلى الوطن في العام 2000، وألّح على استضافتي في بيته في نابلس. في ذلك المساء، جرى حديث لم يجارني فيه المعارض العتيق، أخبره عن خيبة أملي، وأنا أرى أحوال رام الله عاصمة السلطة الفلسطينية، أحدّثه عن صدمتي من رؤية "كازينو أريحا"، غُرّة مشاريع التحرر الوطني الفلسطيني. أروي له عن بشاعة ما رأيت في الدوائر والمؤسسات الرسمية التي زرتها، وأتأفف من هول ما رأيت من فساد ومحسوبية وشطط في السلطة بين أصحاب المعالي والسيادة وجنرالات السلام. يُطبطب الرجل على يدي بحنان أبوي، ويقول بصوتٍ خافت مُطَمْئِن "لا تقلق، فهذا الشعب لن يتركهم يسرقون الحلم، لن يفلتوا من يوم الحساب، وعندما تنعقد محاكم الشعب لن يفلت خائن ولا ظالم". أصغي لصوته الدافئ، فيغمرني اليقين بغروب زمن الانحطاط، وحتمية شروق غدٍ أفضل.
تشاء المصادفة أن ألتقي في منزل الراحل عبد الستار قاسم بالمفكر العربي عزمي بشارة، لأول مرة أيضاً. كان الرجلان يناضلان، كل في مكانه من أجل مصيرٍ أفضل للفلسطيني. يناطح بشارة أكذوبة الديمقراطية الإسرائيلية، ويعرّي من منبر الكنيست عنصرية الاحتلال وبشاعته. ويواجه عبد الستار قاسم عورات مشروع "أوسلو" وعورانه. في ذلك المساء، حدثنا عزمي بشارة عن رحلته الأولى إلى قطاع غزة بعد قيام السلطة الفلسطينية وعودة ياسر عرفات ورفاقه بموجب اتفاق "غزة – أريحا أولاً"، ويقول "وصلت إلى حاجز إيريز، البوابة الإسرائيلية إلى القطاع، وبعد نقطة التفتيش أخذت سيارة تاكسي نحو المدينة. وفي الطريق سألت السائق الغزيّ عن الحال والأحوال مع العهد الجديد، حكم السلطة الفلسطينية، فيجيب السائق، بعد تنهيدة ألحقها بسحبة سيجارة عميقة، "والله يا دكتور أمضينا أربعين سنة ندعو الله الفرج، عرفنا الآن أنه الله كاين فارجها علينا واحنا موش عارفين". اختصر سائق التاكسي حكايةً حاول عبد الستار قاسم إسماعها للناس أزيد عن أربعة عقود، منذ نشر كتابه "سقوط ملك الملوك" في 1979، وحذّر، في متنه، من انحراف مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية، وتنبأ باعتراف المنظمة بإسرائيل، مستنداً في ذلك على قراءة متبصرّة للمستقبل، بعد توافق فصائل فلسطينية على البرنامج المرحلي (برنامج النقاط العشر)، في دورة المجلس الوطني الــ 12 في مايو/ أيار 1974، وما تلا ذلك من لقاءات سرية مع إسرائيليين، وصولاً إلى اللقاء العلني الأول الذي جمع في تونس بداية العام 1983 عضو اللجنة المركزية لحركة فتح في حينها، محمود عباس والراحل عصام السرطاوي مع ماتياهو بيليد وأوري الياف ويوري أفنيري.
مسيرة صعبة قضاها الراحل عبد الستار قاسم متأبطاً لاءاته العنيدة. تعرّض لكل صنوف المضايقة والترهيب، جرّب بشاعة المعتقلات الإسرائيلية، وذاق مرارة ظلم ذوي القربى ومضاضته. حاربوه في رزقه، مُنعت كتبه، حُرقت سيارته، وتعرّض لمحاولات اغتيال عدة، ولكنه لم يهادن أو يداهن. نافس ياسر عرفات في الانتخابات الرئاسية للعام 2004، ورحل قبل خوض انتخابات رئاسية قريبة كان يتهيأ لها. رحل الرجل العنيد، بلا نعي رسمي، ولا عربة مدفع تحمل جثمانه، حملته أكتاف وطنية في موكب استفتاء شعبي يليق بقامته ومقاومته. مضى البروفسور الفلاح إلى مستقرٍّ تمنّاه في حياته، حفنة تراب دافئة وظل زيتونة في دير الغصون.