عن ضياء الكحلوت وأقرانه
كلما اشتدّت التضييقات على عمل أحد الزملاء المراسلين في المنطقة التي تزخر بالممتعضين والمتربّصين الذين يستفزّهم ما يُنشر من تقارير، كان الحديث ينتهي بسخريةٍ من الوضع والتذكير بضرورة إرسال صورة جميلة يمكن استخدامها في حملات التضامن عند الاعتقال. هذه المزحة تبدو ثقيلة عندما تتحوّل إلى واقع، كما حال الزميل ضياء الكحلوت.
مرّ أسبوعان كاملان على اعتقال الاحتلال في غزّة ضياء من دون أي معلومة أكيدة عن مكان احتجازه وظروفه ووضعه الصحي. عجز كامل عن الوصول إليه من أي جهة يعمّق الشعور بقلة الحيلة والألم. يمكن تصوّر حجم افتقاده عائلته التي تشغل تفكيره دوماً، فهي كانت المحرّك الأساس وراء قرار البقاء في مشروع بيت لاهيا، ورفضه القاطع التحرّك إلى أي منطقة من دونها. والحال نفسه بالنسبة لعائلته؛ يشغلها مصيرُه وباقي أفراد أسرته المعتقلين.
التضامن مع ضياء كما باقي الصحافيين المعتقلين من غزّة رغم أنه واجب، وأقلّ الممكن، لكن حجمه لم يكن على مستوى الجريمة المرتكبة. مؤسّسات كبرى يكاد يكون الناطقون باسمها وقد ابتلعوا ألسنتهم تجاه ما يجري بحقّ صحافيين يصدّعون الرؤوس بحديثهم عن الجهود المبذولة لحمايتهم، لكنها في الواقع لا تعدو أكثر من بيانات رفع عتب وعلى استحياء وبعد انتقادات. وكأن الصحافي في غزّة ليس بمستوى باقي الصحافيين في العالم ممن يستحقّون الحماية والتضامن.
لم تكن ظروف ضياء منذ بدء العدوان تختلف عن أي فلسطيني في القطاع. مرّ بكل صنوف العذاب، من النزوح، إلى البحث عن الطعام، ولو عدد من حبّات البيض لابنته، والمياه التي اضطرّوا للحفر بمعاول صغيرة على أمل استخراج القليل منها، والدواء، وعن شحن هاتفه وشبكة إنترنت يمكن استخدامها للتواصل مع أقاربه وتأدية عمله... وصولاً إلى الاعتقال.
الانتهاكات التي رافقت وأعقبت اعتقاله مع عشرات من المقيمين في مشروع بيت لاهيا، والتي تم توثيقها، لم تظهر جديداً بشأن أكاذيب الاحتلال التي يستخدمها لاختلاق ذرائع تبرّر جرائمه، لكنها كانت إعادة تذكير بمدى فجور الاحتلال الذي حوّل كل أبناء غزّة إلى أهداف له، وصولاً إلى حد تبرير تعرية المعتقلين في عزّ فصل الشتاء بأنه "هنا الشرق الأوسط، والجو حار للغاية"، كما أتحفنا مارك ريجيف، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قبل أن تكتمل المهزلة، وطبعاً من الحليف الأوثق الولايات المتحدة. إذ أبلغنا المتحدّث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر بأن إسرائيل أقرّت أنه لم يكن ينبغي التقاط هذه الصور ولم يكن ينبغي بثّها. أما تجريد المعتقلين من ملابسهم فلا ضير منه بالنسبة إلى الإدارة الأميركية العتيدة، لأن الأمر متروك لإسرائيل حتى تقرر أي الإجراءات تراها مناسبة لتفتيش المعتقلين، بما في ذلك التجريد من الملابس "على أن تعيدها إليهم".
يدفع ضياء، كما أهالي القطاع، ثمن أنهم أبناء غزّة فقط، ويواجهون احتلالاً لا يتوانى عن ارتكاب أبشع الجرائم بحقّهم. ... في أحدث إحصائية، أفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزّة، الثلاثاء الماضي، باستشهاد 97 صحافياً منذ بدء العدوان. أما عدد الصحافيين الذين أصيبوا فيتخطّى الـ80 وتعرّضت منازل عائلات ما لا يقل عن 60 صحافياً للقصف، فيما دمّر الاحتلال مقارّ 63 مؤسّسة إعلامية، وعطّل عمل 25 إذاعة محلية.
منذ اللحظة الأولى، حاول الاحتلال أن تكون حربُه بلا شهود، استهدف وسائل الإعلام ومكاتب الوكالات العالمية وطارد الصحافيين لقتلهم إما بالغارات أو القنص أو لاعتقالهم، فيما أرض غزّة محرّمة على الصحافيين خارجها. لكنه حتى اليوم يعجز عن تحقيق مُراده واستكمال مجازره بحقّ أهالي القطاع من دون صورة أو خبر.