عن عقلية القلعة الغزّية المحاصرة
يستشكل على كثيرين بيننا، وفي المحيط العربي أيضاً، فهم هذه الصلابة الروحية، وهذه القدرة الاستثنائية على الصبر والتحمّل والصمود، التي يبديها الغزّيون في وجه حرب تدميرية شاملة، وإبادة جماعية فاجرة ووحشية، لم يجرِ مثلها من قبل، حتّى في الحرب العالمية الثانية. كما يصعُب على المُشفِقين والمُلتاعين والمُتضامِنين في العالم سبرُ غورِ هذه البطولات الملحمية (القتال من مسافة صفر)، وفكّ رموز هذه الشيفرة الغزّيّة العصيّة على الفهم، سواء من دولة احتلالٍ أعياها بلوغُ أيٍّ من أهدافها المُعلَنة، بعد مرور عشرة أشهر من حرب إبادة جنونية، أو من جنرالاتٍ عربٍ متقاعدين استحوا، وربّما تحسّروا على أداء جيوشهم الخائبة.
وأحسب أنه من دون الإمساك بمفتاح عمارة العقلية الغزّية التي بُنِيَت مدماكاً فوق آخر خلال الحروب والحصار والتهميش ستستعصي على الرائي مهمّة دخول دهاليزها الضيّقة، ومقاربة روح التحدّي الهائلة، واستشفاف ما يمور في دواخل ناسها من حسّ جارفٍ بالخذلان والغبن والتمييز والعزلة. وعليه، من المُتعذّر على كلّ سائلٍ فهمُ بواطن هذا البأس الكامن في أعطاف الرجال والنساء الغزّيات، وإدراك مكامن هذه الحصانة المُذهِلة، وهذه الصلابة ضدّ الكسر أو الخنوع والانحناء، الأمر الذي يدعو إلى تقريب هذه الحالة السيكولوجية الفريدة من نوعها إلى الذهن، عبر ضرب الأمثلة الحسّية، وعقد المقارنات النظرية، لفضّ لُغزِ غزّة، ومقاربة ديناميّته، والقيام من ثمّة بعملية تفكيك، ثمّ إعادة تركيب هذا الكوكب الغزّي الدائر في مدارٍ خاصٍّ.
وقد تكون عقلية المُرابطين في القلعة المُحاصَرة أقرب ما تكون شبهاً بالعقلية الغزّية الضاربة في القلق والحذر والاحتقان والتحوّط. إذ رغم وجود فوارقَ كثيرةٍ بين القلعتَين، يبدو قطاع غزّة للناظر إليه من بعد وكأنّه قلعةٌ من قلاع العصور الوسطى، يحاكيها ويتماثل معها من وجوه عدّة. فهو، من جهة موقعه المعزول عن الجوار المتوجّس أمنياً إزاء انفجار القطاع المحاصر، أشبه بتلك العمائر الحجرية الضخمة القائمة في القفار النائية على خطوط القوافل، نقاطَ ارتكازٍ وردعٍ وإمداد مُتقدّمة ضدّ الجيوش الغازية، ومن ناحية جهوزيته الحربية المخفية عن الأنظار، فهو يداني ترسانة تلك المواقع الحصينة المجهّزة جيّداً للقيام بعمليات الكرّ والصدّ والفرّ والإعاقة، إلى أن تصل رسائلُ الاستغاثة إلى أولي الأمر في المركز، ويأتي المدد من قاعدة الإسناد الخلفية.
ومع أنّ لهذا القطاع المُغلَق على نفسه بوابات عدّة تُفتح مزاليجها من الخارج، وليس على غرار قلعة حصينة تُفتح بوّابتها الوحيدة وتُغلق من الداخل، ومع أنّ مقومات البقاء على قيد الحياة للمُحاصَرين في القطاع الباسل هي بين أيدي المحاصِرين ورهن أهوائهم السياسية، ومع أنّه لا سند له ولا مغيث يجهّز المدد في مكان غير بعيد عن الأسوار والبوابات المغلقة، لكن هناك خاصيّةً مشتركةً بالغة التجلّي بين الشريط الضيّق والقلاع القروسطيّة، ونعني بها عقلية القلعة المحاصرة.
ذلك أنّه تحت وطأة الشعور بالعزلة الخانقة داخل الأسوار، ومفاعيل الانقطاع الطويل عن المحيط المجاور، ناهيك عن الحسّ الثقيل بمحدودية الوقت والموارد الذاتية من جهة أولى، والافتقار إلى اليقين إزاء المستقبل ومخاطره الدائمة من جهة ثانية، تشكّلت لدى المرابطين وراء الأسوار الشائكة ذهنية خاصّة، تنازعتها عواملُ الغضب والظلم والحسّ بالوحدانية، وهيمنت على مخايلهم التوقّعات السالبة، واحتدمت في أعطافهم الرغبات المُجهَضة وخيبات الأمل المتراكمة، قبل أن تستبدّ بهم روح التحدّي والجموح واستعجال الخروج للمواجهة، حتّى وإن كانت موازينها غير متكافئة.
ولعلّ إلقاء نظرة متمعّنة على المجريات الراهنة داخل قطاع غزّة المتروك لأقداره، وتقويم بعض ظواهر التجلّد الأسطوري أمام ماكينة القتل المتوحّشة، ومراجعة مضمون الخطاب الفائض بروح التحدّي والصمود والمثابرة، تشير كلّها إلى عديد من مكوّنات عقلية القلعة المحاصرة، إذ حين تطبق السماء على الأرض، ويضيق مجال الرؤية وتتّسع العبارة، تقلّ البدائل وتتضاءل الخيارات المُتاحة، وتشتدّ معالم الحيرة ومظاهر الترك والخذلان، ندرك كيف تضافرت الظروف الموضوعية والذاتية، وتفاعلت مُدخلاتها في مدى 75 سنة لإنتاج مُركّبات ذهنية عقلية القلعة المحاصرة، وديناميتها المتّسمة بميل غريزي إلى التشدّد والتكتّم والمجازفة المحسوبة، تماماً على نحو ما حدث يوم "طوفان الأقصى".