عن عودة التعذيب في تونس
"هايلة (رائعة) البلاد.. تعذيب واستبداد"... شعارٌ رفعه المحامون التونسيون في وقفتهم الاحتجاجية تنديداً بالاعتداء الأمني الوحشي على المحامي مهدي زقروبة، بعد اعتقاله إثر دهم دار المحامين في تونس العاصمة. اعتقالٌ من دون سابق إنذار أو توجيه استدعاء أو حتَّى إصدار بطاقة جلب في حقّ المُتّهم، الذي يتمتّع، بصفته ممارساً مهنة المحاماة، بترتيبات خاصّة، تتعلّق بإجراءات الدعوة للمثول أمام التحقيق.
وُثّقت الاعتداء على المحامي خلال عملية دهم المؤسّسة التابعة لهيئة المحامين، وتهشيم بعض الممتلكات والأبواب، من دون تفسير أو توضيح، ليتبيّن، بعد ذلك، أنّ سبب الاعتقال ادّعاءٌ بطرد مهدي زقروبة أحدَ أعوان الشرطة المُتخفّين من جهاز الاستعلامات، الذي كان يجول بين المحامين داخل المحكمة الابتدائية في العاصمة تونس، خلال وقفة احتجاجية، تزامنت مع مثول المحاميّة والمحلّلة الإعلامية سنيّة الدهماني أمام قاضي التحقيق، وقد تعرّضت إلى حادثة مُماثلة، قبل أيام، حين اقتحم عناصرُ شرطةٍ مُلثّمون وبزيّ مدنيّ مقرَ العمادة لاعتقالها عنوةً، على خلفية تصريح إعلامي في نقاشٍ بشأن ملفّ المهاجرين من جنوب الصحراء. تعرّض المحامي المُعتقَل إلى تعذيب قطعت معه تونس منذ سنوات، وفق تصريح زملائه في المهنة، الذين أكّدوا أنّ زقروبة واجه تعنيفاً خطيراً خلال فترة الاحتفاظ يمسّ كرامته الجسدية. في مقابل ذلك، رفضت وزارة الداخلية هذه الرواية التي عاينتها هيئة الدفاع، وهدّدت بملاحقة كلّ من ينفي الرواية الرسمية للأمن، إلى جانب رفض طلب معاينة الطبّ الشرعي المُتّهم، تحت شعار "لا أريكم إلا ما أرى".
من الواضح أنّ الجهاز الأمني في تونس يستمدّ سطوته من سياسات رأس السلطة التنفيذية، وتحريضه على المعارضة، رغم ادعاء تلك السلطة حماية الحقوق والحرّيات
تكثّفت في الآونة الأخيرة حملات الاعتقال التي طاولت إعلاميين ومدوّنين ومحامين ونشطاءَ مجتمع مدني، على خلفية آرائهم ومواقفهم من السلطة أو بعض السياسات، إذ برز الطرف الأمني بعنجهيته وخرقه الإجراءات في مواجهة حقوق المواطنين وحرّياتهم وانتهاكها. ومن الواضح أنّ الجهاز الأمني في تونس يستمدّ سطوته من سياسات رأس السلطة التنفيذية، وتحريضه على المعارضة، رغم ادّعاء تلك السلطة حماية الحقوق والحرّيات، كما هو حال القضاء، الذي تحوّل وظيفةً خاضعةً للتعليمات، وليس سلطةَ القانون والضمير الأخلاقي، وإلا، لسائل أن يسأل: كيف تتجاهل السلطة السياسية حادثة تعذيب خطيرة في حقّ محامٍ معروف رغم القوانين المانعة ذلك؟ وكيف يأمن المواطن البسيط على حاله من بطش الشرطة، بعد ذلك؟ كيف تتجاهل دولة العلو الشاهق لقيس سعيّد سجن ناشطة في المجتمع المدني بتهم تتعلّق بالدفاع عن المهاجرين من جنوب الصحراء، رغم حداثة إنجابها مولوداً يُحْضَرُ يوميّاً إلى السجن، تقوم بإرضاعه في ظروف غير إنسانية وغير أخلاقية؟
كما تتجاهل السلطة التونسية نداءات الاستغاثة من داخل السجن، ومن الأطبّاء، بضرورة إخراج السجين والنائب السابق راشد الخياري من معتقله إلى المستشفى لإجراء عملية عاجلة، بسبب انتشار ورم خبيث في جسده (!)
تشهد سجون قيس سعيّد حالات عديدة من الانتهاك للحرمة البشرية، وحرمان المُعتقَلين من معاملة إنسانية لائقة، منها وضعية النائب والوزير السابق محمد بن سالم، الذي صار مُقعداً، والحالة الصحّية الحرجة للشيخ المُسنّ النائب السابق حبيب اللوز وآخرين كُثر. لم تكفّ سلطة الانقلاب عن تلفيق التُهم للمعارضين، والزجّ بهم في السجون، بل تعدّى الأمر ذلك ليصل إلى التشفّي، وإطلاق يد الجهاز الأمني للعودة إلى ممارسات نظام بن علي.
تستعدّ تونس للانتخابات الرئاسية، رغم عدم تحديد موعدها رسمياً بعد، ما فتح المجال للشكّ في نوايا السلطة لتنظيمها
وقد ندّدت بيانات أوروبية وأميركية وفرنسية ببعض آخر الاعتقالات، مطالبةً السلطة بتوضيحات، إلا أنّ الردّ التونسي كان واضحاً وحاسماً، إذ كلّف الرئيس سعيّد كاتب الدولة الخارجية باستدعاء سفراء هذه العواصم الغربية والتنديد بمواقفهم، وبالتدخّل في شؤون البلاد الداخلية. في هذا المجال، ورغم مرارة التماهي مع موقف سلطة الانقلاب، شكلاً وليس مضموناً، إلا أنّ هذه الدول لا شرعية أخلاقية لها لمحاولة إعطاء دروسٍ في الحقوق والحرّيات، أولاً، لما سجلّه العالم من مواقفها المُخزية تجاه الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، وتبريرها تقتيل المواطنين الفلسطينيين، وملاحقة المتضامنين مع القضية الفلسطينية داخل ترابها والتضييق عليهم. ثانياً، لازدواجية معاييرها ومواقفها أمام الأحداث في تونس، منذ 25 يوليو (2021)، وسلسلة الاعتقالات والانتهاكات. أما التناقض الجوهري مع موقف قيس سعيّد من التدخّل الخارجي في الشأن التونسي فيتعلّق بما تتّسم به سياساته من تناقض، إذ تجده يقرّع السفراء ويُذكّرهم بالسيادة التونسية من جهة، ويعقد، من الجانب الآخر، اتفاقيات مشبوهة مع بلدان شمال المتوسّط تجعل تونس حارسَ حدودٍ لها، ومركز توطين للمهاجرين غير النظاميين، كما يتغاضى عن التقارير التي تُسلّط الضوء على الانتهاكات التي تُمارس في حقّ المهاجرين التونسيين في سجون إيطاليا، وغيرها من نقاط العبور، ومن ثمّ إكراههم على العودة في ظروف سيئة. وثالثاً، وهو الأكثر أهمّية، أنّه يفعل بالبلاد ما تفترضه نظريات الغرب بشأن دونيّة مجتمعات الجنوب، وقلّة وعيها ونضجها لتكون مؤهلّةً للعيش في ديمقراطيات راسخة ومستقرّة، تضمن حقوق مواطنيها الكاملة، وتحوّل سيادتها قوّةَ دفاع عنهم، وليس أداةَ تغلّب واستحمار.
في هذه الظروف، والسياقات السياسية والحقوقية، تستعدّ البلاد للانتخابات الرئاسية، رغم عدم تحديد موعدها رسمياً بعد، ما فتح المجال للشكّ في نيات السلطة القائمة لتنظيمها، سواء في آجالها الدستورية، أو على الأقلّ، ليس قبل استكمال عملية محاصرة المُعارَضَة، وتوجيه التهم للمنافسين المُفترضين للرئيس، وإضافة بنودٍ إلى القانون الانتخابي، تضيّق فسحة التنافس والتعبير. كما لا يمكن الحديث عن تنافس انتخابي في ظلّ المرسوم عدد 54، الذي تحوّل سيفاً مسلّطاً على رقبة كلّ منتقد للسلطة أو لبعض سياساتها، ناهيك عن أضدادها.