عن مبعوث أميركي إلى إيران ترفضه إسرائيل
أحدث تعيين الدبلوماسي، روبرت مالي، مبعوثاً أميركيا خاصا إلى إيران، موجة من اعتراضات قوية، بين الأوساط اليمينية والصهيونية المتشدّدة في الولايات المتحدة، وهذه تتهمه بمعاداة إسرائيل ومحاباة ايران والفلسطينيين، باعتبار اختيار الرئيس الأميركي، جو بايدن، هذا الرجل مؤشرا إلى ذلك، عوضاً عن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران. على الرغم من هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، فإن قوى داخل الكونغرس وخارجه تستمر في التحريض على حربٍ ضد إيران، وفي دعم غير مشروط لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وتأييد في خططه لضم المستوطنات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى غور الأردن، أي استكمال ما تسمى صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية.
ومردّ الهجوم الذي يتعرّض له روبرت مالي أنه كان الدبلوماسي الوحيد في الفريق الأميركي الذي أشرف على المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وانتقد الموقف الإسرائيلي علنا وهو في موقعه الرسمي، معارضا الحملة التي شنتها إدارة الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، ضد الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، ولومه على فشل مفاوضات كامب دايفيد العام 2000. فما كان من مالي إلا أن نشر مقالا استعرض فيه ما حدث في تلك المفاوضات، ووضع اللوم على رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، بتقديم خطةٍ لا يمكن لأي فلسطيني قبولها، مضمونها "دولة" ممسوخة مجزّأة فاقدة السيادة، متوقعا من عرفات ليس قبولها فحسب، بل التوقيع على اتفاقٍ بالتخلي عن كل الحقوق التاريخية والوطنية للشعب الفلسطيني وإعلانه نهاية الصراع.
تعيين روبرت مالي لا يعني أن هناك تغيراً استراتيجياً في السياسة الأميركية، فهو مؤمن بالمؤسسة وملتزم بأهدافها
إضافة إلى أن إسرائيل، ومعها معظم اليمين الأميركي الصهيوني، تعتبر روبرت مالي واحدا من فريق وزير الخارجية السابق، جون كيري، الذي شارك في المفاوضات التي أدت إلى توقيع الولايات المتحدة على الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، والذي انسحب منه الرئيس السابق ترامب، في محاولة لمنع خلفه في البيت الأبيض من العودة إليه أو على الأقل وضع قيود وشروط تضعف إيران دولةً، وليس قوة إقليمية فحسب. ولكن تعيين مالي، الدبلوماسي الذي اكتسب احتراما واسعا لنقده المستمر المستوطنات والسياسات الإسرائيلية، وتهوّر ترامب، لا يعني أن هناك تغيرا استراتيجيا في السياسة الأميركية، فهو يؤمن بالمؤسسة الأميركية وملتزم بأهدافها، وإن كان قد وصل إلى أن لا سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين من دون الاعتراف بتبعات الاحتلال، وبضمان تسويةٍ تأخذ في الاعتبار حقوق الفلسطينيين، وأنه لا حل من دون موافقة الفلسطينيين. وقد وصل إلى هذا الاستنتاج معظم الفريق التفاوضي الأميركي إبّان عهد كلينتون، حتى الصهاينة منهم، لكن مع اختلاف درجات الاستعداد للاعتراف بحقوق الفلسطينيين، فالاعتراف وتضمين ذلك في اتفاق سلامٍ بقيا مشروطين بعدم الإخلال بأمن إسرائيل وسلامتها وتفوقها الاستراتيجي في المنطقة. وبالنسبة للمتشددين من مؤيدي نتنياهو من اليمين الإسرائيلي، يشكل هذا التفكير خطرا على إسرائيل، حتى جاء من الملتزمين بالصهيونية في الإدارة الأميركية ومؤسساتها، لذا نرى هجوما على مالي، وانتقادات متوالية للوزير السابق جون كيري، الذي يتولى مسؤولية ملف اتفاقيات المناخ، ومدير وكالة الاستخبارات الدبلوماسي وليام بيرنز، فهم يمثلون العودة إلى إدارة الرئيس السابق، أوباما، الذي فضّل توقيع اتفاق مع إيران على الحل العسكري. وقد نشرت الصحف الإسرائيلية مقالات متتالية تعرب عن استياء من عودة كيري وبيرنز ومالي، فالخشية من أن لا يخدم ذلك السياسة الإسرائيلية في توجيه ضربة إلى إيران، كما أن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران تعرقل خطط نتنياهو في استمرار بناء المستوطنات وتهويد مدينة القدس، فالادعاء أن إيران خطر وجودي على إسرائيل والعالم العربي يزيح الأنظار عن جرائم الجيش الإسرائيلي، وقد يعزّز القبول العربي للتطبيع مع إسرائيل.
أوجد ترامب وقائع جديدة، أهمها اتفاقيات التحالف التطبيعية، واعترف بضم إسرائيل هضبة الجولان وبالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وهي قرارات لن تغيرها الإدارة الجديدة
الخشية الحقيقية في إسرائيل والمراكز اليمينية في أميركا أن جملة التعيينات مرفقة بخطوات تعارضها إسرائيل ستؤدي إلى عكس ما أسّسه ترامب من إنجازات لصالح المشروع الصهيوني، فقرارات مثل استئناف العلاقات مع السلطة الفلسطينية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وموقف عدد من فريق بايدن المؤيد لوقف بناء المستوطنات، أضف إليه التوجه إلى عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران، كلها مؤشرات انتكاسة للنهج الترامبي. ولكن ما نراه ليس هو عكس سياسات ترامب؟ على الأرجح، هو تعديل (مع عدم التقليل من أهميته) على سياسات ترامب، وليس إلغاء لها، فترامب أوجد وقائع جديدة، أهمها اتفاقيات التحالف التطبيعية غير المسبوق بين دول عربية وإسرائيل، واعترف بضم إسرائيل هضبة الجولان السورية وبالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وهي قرارات لن تغيرها الإدارة الجديدة، بل وكما رحب بايدن ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، بهذه الاتفاقيات، باعتبارها إنجازا يجب البناء عليه في التخطيط للسياسة الخارجية. كما أن بايدن لن يلغي خطوة ترامب الاستباقية، في آخر أيام رئاسته، نقل إسرائيل من مسؤولية القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا إلى مسؤولية نظيرتها في الشرق الأوسط، وهي أهم خطوة استراتيجية لربط أمن المنطقة بالأمن الإسرائيلي، تدعيما لحلف أمني عربي تحت هيمنة إسرائيلية، كما أوضح هذا مقال سابق للكاتبة في "العربي الجديد" (17/1/2021). بل دعمت إدارة بايدن الخطوة بزيارة أولى إلى إسرائيل، أدّاها قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال كينيث ماكينزي، وإن لم يكشف عن مضمونها، غير أن رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، يبدو أنه استقوى بالتطمينات الأميركية، فأعلن، بعد أيام، عن تبلور تحالف إقليمي قوي، لمواجهة "المحور الشيعي"، مخاطباً ومهدّدا سكان لبنان وقطاع غزة بأن يغادروا بلدهم ومناطقهم "التي ستغمرها هجمات الجيش الإسرائيلي".
إدارة بايدن تريد استرضاء حلفائها العرب التقليديين، وكبح جماح بعض الحلفاء الذين فضّلهم ترامب
التعيينات في الإدارة الأميركية مهمة، لأنها تكشف عن توجهاتٍ ومؤشراتٍ سياسية، وإنْ تبقَ في إطار الأهداف الاستراتيجية الأميركية، والملاحظ ان إسرائيل التي تغالي في اليمينية والتشدد أصبحت لا تقبل تعيين أي أميركي حتى لو كان ملتزما بالصهيونية، إذا تعارض ولو قليلا مع سياسات نتنياهو، فبمجرّد تسريب خبر عن احتمال ترشيح دينيس روس لمنصب سفير أميركا في إسرائيل، وهو الصهيوني الملتزم، المدافع عن إسرائيل في عدة إدارات أميركية، ارتفعت أصوات في الولايات المتحدة وإسرائيل تعارض تعيينه، لمجرّد معارضته فرض حل على الفلسطينيين من دون إحياء ما تسمى "عملية السلام"، والدخول بمفاوضات مع الفلسطينيين.
والملاحظ أنه لم يتم بعد تعيين نائب وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، بل تم تعيين الدبلوماسي والباحث من أصول عربية، هادي عمر، مساعدا له للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية، في خطوةٍ تبدو محاولة للحفاظ على بعض التوازنات، خصوصا أن وزير الخارجية بلينكن معروف بموقفه المتشدّد من إيران وبتأييد إسرائيل. والتحدّي أمام بايدن كيف ينجح بتعديل بعض سياسات ترامب التي عزلت أميركا عن حلفائها، والظهور بصورة القوة المعتدلة، من دون الخروج من هدف ضمان الهيمنة الأميركية والتفوق الإسرائيلي في المنطقة.
المهم أن لا يقع الزعماء العرب والنخب العربية في وهم جديد، فالواضح أن إدارة بايدن تريد استرضاء حلفائها العرب التقليديين، وكبح جماح بعض الحلفاء الذين فضّلهم ترامب، لمنعهم من مغامراتٍ قد تشكل خطرا على الأهداف الاستراتيجية الأميركية.