عن مظاهر شرعنة قتل كل الغزّيين
أبرزت الحرب الإسرائيلية الراهنة على قطاع غزّة التي تقترب من انتهاء شهرها الأول مَن يوصفون بأنهم "أبطال إسرائيليون جدد"، كما تسبّبت بسكّ مصطلحاتٍ يجري تداولها أول مرّة. ويبدو أن هذا كله سيظلّ جزءًا من المشهد العام والخطاب السائد في الزمان اللاحق، ما يجعل من ذلك مشروعًا مفتوحًا باستمرار على مزيدٍ من الأسئلة المتعلقة بما آلت إليه إسرائيل، مجتمعًا وقيادةً.
ويقف في طليعة هؤلاء "الأبطال" الباحث في الشؤون الأمنية إلياهو (بهروز) يوسيان، وهو يهودي من أصل إيراني، من طاقم معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجيا الصهيونية، التابع لتيار اليمين الإسرائيلي الجديد، ومتخصّص في الشؤون الإيرانية. وتتمثّل بطولته، بحسب ما يُقرّ أحد الكتّاب الدائمين في صحيفة هآرتس، روغيل ألفر، في دعوته المتكرّرة إلى قتل السكّان الغزّيين عن بكرة أبيهم. واللازمة التي يكرّرها يوسيان في كل استديوهات التلفزة الإسرائيلية هي التالية: إذا كانت إسرائيل راغبة بالبقاء على قيد الحياة عليها أن تجتاح غزّة بكل وحشية بغرض الثأر، ومن خلال صفر أخلاق، ولغاية تكديس أكثر ما يمكن من جثث القتلى. وعندما يكرّر هذا، لا أحد يعترض أو حتى يتحفظ على ما يقوله، ما تأدّى عنه شرعنة الدعوة إلى قتل كل سكان غزّة.
وعلى المستوى الرسمي، قال وزير الزراعة وعضو "الكابينت" الإسرائيلي آفي ديختر، وهو رئيس سابق لجهاز الأمن العام (الشاباك)، في اليوم الثالث للحرب، خلال مقابلات إذاعية وتلفزيونية، إن عهد وجود أبرياء في غزّة انتهى إلى غير رجعة. وليست الحرب الحالية جولة أخرى، بل معركة حقيقية لتغيير الأمور رأسًا على عقب.
ودعمت خلاصة ديختر ورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد مسغاف" المذكور أعلاه، تشير إلى أن 60% من سكّان قطاع غزة يؤيدون حركة حماس من ناحية سياسية، ويدعمون كفاحها المسلّح ضد إسرائيل. وبناء على ذلك، المطلوب ضرورة إسقاط أي فصل أيديولوجي أو سياسي بين معظم السكّان في القطاع و"حماس". وعنونت إحدى وسائل الإعلام الناطقة بلسان اليمين الإسرائيلي تقريرها عن محتويات تلك الورقة بالعبارات التالية: "أبرياء؟ ليس في قطاع غزة...".
وقد درج قادة إسرائيل على الادّعاء أن "عدوّنا هو حماس وليس سكّان غزة"، ولكنهم، في الوقت ذاته، حرصوا على أن يضيفوا إلى ذلك قولهم إن "سكّان غزة مذنبون بسبب انتخابهم حماس". وكانت أكثر غاية يلحّون على ترسيخها في أذهان العالم، فضلًا عن الظهور بمظهر الضحيّة الأبدية، هي استبعاد أي مقارنةٍ بين إسرائيل و"حماس". وفي هذا الشأن، بزّت وزيرة العدل السابقة تسيبي ليفني الجميع بقولها إنه لا وجه للمقارنة بين إسرائيل وحماس، فهذه الأخيرة تقتل المدنيين على نحو متعمّد في حين أن دولتها تقتل المدنيين من دون قصد. وأضافت بشكل جازم أن هذا هو الفارق بين القتل والقتل العمد. وكان يُفترض بها، باعتبارها قانونية وليست سياسية فقط، أن تعلم علم اليقين أنه حتى من يُتّهم بالقتل غير العمد يُعاقب أيضًا بالسجن فترة طويلة.
ولوسائل الإعلام الإسرائيلية في معظمها حصّة كبيرة في زيادة الضبابية والغموض أكثر من المساهمة في الكشف والتعرية والإيضاح، وبعضها تعدّى ذلك إلى تبرير وسائل القوة المفرطة التي استعملتها آلة القتل والعدوان الإسرائيلية ولا تزال، ناهيك عن تبرير الحرب نفسها. وتتعامل وسائل الإعلام، إلا في ما ندر، بلامبالاة كبيرة ومثيرة للتقزّز مع قدرة المجتمع الإسرائيلي العلنية والكامنة على التسليم بقتل الأطفال، بعضه بتفهم، وبعضه بموافقة، وبعضه الآخر حتى بحماسةٍ شديدة.
ولا شك في أن ما يمكّن هذا العالم المتوحّش من البقاء والاستمرار عدم مواجهته بالحقائق والوقائع النازفة من غزّة، وهو لا يُواجه بها نظرًا إلى أن الذراع العامة المؤتمنة على نقل الحقائق (وسائل الإعلام الإسرائيلية) تتقاعس عن القيام بمهمتها، ما دفع أكاديميا إلى الجزم بأنه إذا كان ثمّة مثال ساطع على "الخيانة في زمن الحرب"، فتلك هي الخيانة بعينها.