عن مقتدى الصدر وشروطه
ما فتئ زعيم التيار الصدري في العراق، مقتدى الصدر، مالئا الدنيا وشاغلا مواقع التواصل، متقلبا ذات اليمين وذات الشمال، محاولا الإيحاء بأنه "ينام بإحدى مقلتيه ويتقي/ بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم"، وهو في جديد تجلياته بدا مصدّقا أنه أصبح "سيد المقاومة" و"قائد الانتفاضة"، وهي بعضٌ من ألقابٍ وهبه إياها رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، في أحدث إطلالة تلفزيونية له على قاعدة "يهب الأمير ما لا يملك لمن لا يستحق"، وقد تصرّف الصدر على وفق هذه الألقاب السامية، فوضع اثني عشر شرطا أمام شباب الإنتفاضة، مهدّدا بأنه اذا لم يلتزموا بها فإنه سيتصدّى "لإنهاء الفتنة"، وهذا ما كان فعله من قبل يوم أطلق "أصحاب القبعات الزرق" في حملةٍ ما يزال حصادها ماثلا أمام أعيننا.
ولافتٌ هذه المرة أن يوقع الصدر دزينة شروطه بتوقيع "العراقي مقتدى الصدر"، بدلا من لقب "زعيم الإصلاح" الذي كان يوقع به في السابق، وقد أراد من ذلك تأكيد عراقيته، بعدما وضعه شباب الإنتفاضة في القائمة السوداء و"كلهم يعني كلهم"، وربما يكون أيضا قصد الردّ على ما تردّد في مواقع التواصل أن "مرشد الثورة الإسلامية"، خامنئي، وعده، في زيارته أخيرا إلى قم، بأنه سيدعم وراثته السيستاني في تبوء مرجعية النجف عندما يحين الأوان، وتلك حكايةٌ أخرى.
تصرّف الصدر على وفق الألقاب السامية التي أغدقها عليه مصطفى الكاظمي، فوضع اثني عشر شرطا أمام شباب الانتفاضة، مهدّدا بأنه اذا لم يلتزموا بها فإنه سيتصدّى "لإنهاء الفتنة"
وفي قراءةٍ لشروطه الاثني عشر، نجد أنه يوجّه اتهامات ضمنية إلى الشباب بأنهم ينفذون "أجندات خارجية"، وبينهم من هو "مندسٌّ أو مدفوع"، وهم يشكلون بذلك مصدر إيذاء للوطن، وعليهم الالتزام بشروطه وإلا... إلخ، وينصّب نفسه حاكما ومنفذا لحكمه، إن شاء، في الإقتصاص من المخالفين لشروطه التي تمثل جزءا من تكتيكات سمجة، يهدف من ورائها الى خنق الإنتفاضة/ الثورة، ثم تدميرها، وصولا إلى إعادة إنتاج "العملية السياسية" الماثلة، وبعث الروح فيها من جديد، وهو أمرٌ يجب أن يتحسّب له الثوار، ويقرأوه جيدا. من ناحيةٍ ثانية، لا يجب الاستخفاف بردود أفعاله، أو التقليل من تأثيرها على الوسط الشعبي، لأن ذلك قد يدفع إلى تأجيج صراعاتٍ داخل حركة الثورة نفسها، خصوصا أن قطاعا عريضا من أبناء التيار الصدري، أو من المنشقين عنه، يتعاطفون مع الانتفاضة ويساندون مطالبها، لكنهم يحتفظون بنوع من التعصب المبالغ فيه للمذهب، وبحالة الولاء "التاريخي" لآل الصدر، وهذه العقدة يمكن فكّها بشيء من الصبر والمرونة، وتحفيز الوعي لدى حملتها، وأغلبهم ضحية جهل أو خداع أو غسيل دماغ.
تريد حكومة الكاظمي استنفاد الوقت، واللعب عليه، وصولا إلى الانتخابات من دون أن تكون الأرضية جاهزةً لتحقيق تغييرات أساسية في الهياكل والآليات التي لها صلة بالعملية الديمقراطية
ومع هذا كله، نظل أمام معضلةٍ ليست هينة، وقد تقود الى ما هو أسوأ، مع ملاحظة أن ما يدور على الضفاف الأخرى قد يزيد من حدّة هذه المعضلة وتأثيراتها، كما أن نوايا حكومة الكاظمي التي تقدّم رِجلا وتؤخر أخرى أصبحت واضحة، فهي تريد استنفاد الوقت، واللعب عليه، وصولا إلى الانتخابات من دون أن تكون الأرضية جاهزةً لتحقيق تغييرات أساسية في الهياكل والآليات التي لها صلة بالعملية الديمقراطية، بما يضمن نزاهة الانتخابات، ويخدم وصول ممثلين عن الثوار إلى سلطة القرار. وفي المقابل، قد تكون تلك الهياكل والآليات التي شرعنتها سلطة الاحتلال وحكوماته اللاحقة عصية على التغيير في الحال الحاضر، إذا لم يضمن الثوار استمرارية انتفاضتهم وإدامتها، وهذا لا يتم إلا من خلال السعي إلى تأطير حركتهم في تحالف وطني يضمن وحدتها وصلابتها ووضوح أهدافها. أما مراهنة بعضهم على قدرة الكاظمي على إجراء إصلاحات جذرية، أو حتى على نياته التي نرجو أن تكون صادقة، فذلك كله لن يؤدّي الى النقلة النوعية التي يريدها الثوار.
هنا يبرز عنصر الزمن عاملا مهما في سير الأحداث. والثوار بالطبع ليسوا في وارد الجلوس والإسترخاء على الشاطئ، وانتظار أن تحمل الأمواج جثث أعدائهم، إنما عليهم اللعب بشراسة، تعلم الكر والفر، المطاولة والمناورة. وعليهم أن يتذكّروا أن الشروخ التي يرصدونها في جدران "العملية السياسية" الماثلة سرعان ما تلتئم وتختفي، عندما تشعر الطبقة الحاكمة بالخطر المحدق بها، وتعمد إلى التجمع في كتلة واحدة، لسد تلك الشروخ، قبل أن تودي بها.
باختصار مفيد، الثوار أمام حالٍ فيه من التعقيد والغموض ما لا يحسدون عليه، واللعب في مثله يتطلب اليقظة والإنتباه، ورصد ما يمكن أن يحدُث من وقائع، وما يصدره الأعداء والخصوم من أفعال، وحساب كل شيء بمقداره.