عن نداء شيخ الأزهر في البحرين
استُضيف الشيخ هاني فحص في "خلّيك في البيت" على شاشة قناة المستقبل اللبنانية، قبل عقدين إلا قليلا، و"تلفَنت" شابّة مصرية من مشاهديه من القاهرة، لتسأله، وهو الذي يدلّان، ملبسُه وعمامتُه، على شيعيّته، عن الفروق بين السنّة والشيعة (نعم هكذا)، فأجابها الراحل، بتبسّطٍ معها، وهو عالمٌ حكيم، ويدرك أنه مستضافٌ في برنامج دردشةٍ في التلفزيون، بأن لا لزومَ لأن تعرف السائلة هذه الفروق، وأن الأدْعى أن تعرف ما يجمع بين السنّة والشيعة... وفي الوسع أن يخمّن واحدُنا أن ما دعا المُشاهِدة إلى أن تهاتف من بلدها الذي لم يعرف يوماً مسألة سنيةً شيعيةً وتسأل سؤالها، المحمول على البساطة والبراءة، هو ما كانت الأخبار المتواترة من العراق، المحتلّ للتوّ، تأتي عليه عن تنازعٍ فيه بين من انتدبوا أنفسهم ممثلين عن العراقيين الشيعة ومن انتدبوا أنفسَهم مدافعين عن العراقيين من أهل السنّة، لما كانوا يستشعرونه من استهدافٍ لهم. وليس، منسيّاً في تلك الغضون ما كان البلد يعبر فيه من تشاحنٍ أهلي حادّ، يسفر عن منزع طائفيٍّ ظاهر. ولم يقصّر إبّان ذاك أبو مصعب الزرقاوي، وأصنافٌ من أمثاله، في تسعير ما يمكن تسميتَها غرائز طائفية بين العراقيين، بل وبين المسلمين عامة في بلدانهم، تتظلّل بمشاعر، صارت تقيم في الأفهام والحشايا، عن مظلومياتٍ استجدّت بعد مظلومياتٍ رأى أهلُها أنه الوقت لأن يغادروها... وما زالت دار لقمان على حالِها، فلم تنحلَّ العقدُ بعد، ولم يتحرّر العراق من المربّعات الطائفية المقيتة.
تأتي تلك المقاطع العراقية ومتوالياتُها إلى البال، عندما تسمع شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، يوجّه، يوم الجمعة الماضي، "نداءً" إلى "إخوتنا" من علماء المسلمين الشيعة، لعقد "حوار إسلامي - إسلامي جادّ، من أجل إقرار الوحدة والتقارب والتعارف... تنبذ فيه أسباب الفرقة والفتنة والنزاع الطائفي على وجه الخصوص". ولا يسع السامع إلا أن يشدّ على يد الشيخ من أجل هدفٍ شديد الضرورة كهذا. وقد حملت كلمتُه التي تضمّنت النداء مضامينَ لها أهميتها، من قبيل ضرورة أن يحذَر المسلمون الوقوع في "استغلال الدين في إثارة النعرات القومية والمذهبية". وإذ جاءت الكلمة في منتدىً في البحرين (شارك فيه بابا الفاتيكان)، فهذا يستدعي إلى الخواطر ما يعرفه هذا البلد من استعصاءٍ سياسيٍّ يلبس رداءً طائفياً، فتكتلات المعارضة السياسية في أغلب وجوهها تنتسب إلى المكوّن الشيعي (الغالبية بحسب تعداد ذائع) وهذه، مثلاً، جمعية الوفاق الوطني الإسلامية، التي قضت محكمةٌ بحرينيةٌ بحلّها في 2016، تستقبل الانتخابات النيابية المقرّر انتظامها في 12 الشهر الجاري بإصدار كتيّبٍ يحدّد 139 سبباً (ليس 140!) لمقاطعة هذه الانتخابات. ومعلومٌ أن الجمعية المذكورة أحرزت 17 مقعداً نيابياً في انتخابات عام 2006، وكانت الكتلة الأكبر في المجلس النيابي، و18 مقعداً في انتخابات 2010، قبل أن ينعطف حال البلاد إلى التأزّم السياسي مجدّداً، بعد أن عبرت في تباشير واعدة، وشاع الظنّ أن مسيرةً إصلاحية قد بدأت، قبل أن تنتكس التجربة، عندما اختار الحكم في المملكة الخليجية الصدام الذي ليست المجموعات السياسية، ذات اللون الطائفي المحض، السنّية والشيعية، بريئةً من تأجيجه.
الشقاق الظاهر، بين وجهٍ سني وآخر شيعي، في العراق، والاختناق السياسي في البحرين الذي لا يخفى لونُه الطائفي على أحد، والبؤس المعلوم في اليمن، البلد الذي عدّه عزمي بشارة، يوماً، نموذجا حيا على مقولة إن الطائفية السياسية مصنوعةٌ لا مطبوعة، تمثيلاتٌ دالّةٌ على أن حال "الفرقة والفتنة" في هذه البلدان (وغيرها؟) لا ينهيه حوارٌ بين دعاةٍ وعلماء سنّة وشيعة (على أهميته)، وإنما إصلاح سياسي في العمق، جذري، يعلي قيمة المواطنة مفهوماً وسياسةً وخياراً مؤكّداً، وهذا شرحُه يطول. ومن مفارقاتٍ كاشفة أن شيخ الأزهر نادى بما نادى إليه بعد أسبوع على اختتام المؤتمر السادس والثلاثين (هذا رقمُه) للوحدة الإسلامية في طهران، عنوانه "الوحدة الإسلامية والصلح والحذر من الفرقة والصراع في العالم الإسلامي، الحلول التنفيذية والتدابير العملية" (عذراً للإطالة)، اشتمل بيانُه الختامي على أبلغ ما يمكن أن تُصادفه من كلام عن ضرورة وحدة المسلمين. وليس منسيّاً أن علماء من السنة والشيعة اجتمعوا مرّاتٍ في ملتقياتٍ بلا عدد بدأت منذ عقود، قبل أن تشحّ وتنحسر، وأن أدبيات مؤتمرات التقريب (الأزهريةِ وغيرِها) بين المذاهب أكثرُ من بديعة.. ولكن القصة كلها في مطارح أخرى، منها أن شابّةً مصريةً تسأل في تلفزةٍ لبنانيةٍ عن الذي يفرّق بين السنّة والشيعة.