عن يومِ الأندلس
احتفل سكان إقليم الأندلس، في إسبانيا، الأسبوع الماضي، بـ ''يومَ الأندلس'' الذي يُصادف 28 فبراير/ شباط من كل سنة، تاريخ الاستفتاء الذي نظم في 1980، ومنح بموجبه الإقليم الحكمَ الذاتي، إسوة بأقاليم إسبانية أخرى، في سياق مخاض التحوّل الديمقراطي الذي عاشته إسبانيا آنذاك بعد وفاة الجنرال فرانكو.
يُحيي الأندلسيون سنويا ذكرى حصولهم على الحكم الذاتي بتنظيم احتفالات شعبية وفعاليات فنية وثقافية في مختلف مدن الإقليم وبلداته، فتُرفع الأعلام الأندلسية على شرفات المنازل، وتقدّم الوجبة التقليدية، المكوَّنة من الخبز المُحلّى وزيت الزيتون، في المدارس والمعاهد، وتُردَّد أهازيج الحصاد التي كان يغنيها الفلاحون في حقول الأندلس، ويُغَنّى النشيد الأندلسي في الشوارع والفضاءات العامة في طقس اجتماعيٍّ لا يخلو من دلالاتٍ تاريخيةٍ وسياسية وهوياتية.
وعلى الرغم من أن الهوية الأندلسية لا تتعارض مع الهوية الوطنية الجامعة (الإسبانية)، على عكس الهويتين، الباسكية والكتالانية، إلا أنها مع ذلك لا تخلو من خطاب الخصوصية الثقافية الذي ما فتئ يتنامى، في مواجهة الحكومة المركزية في مدريد. وتعود جذور هذا الخطاب إلى المفكّر والمؤرّخ وعالم الموسيقى والسياسي بْلاس إنْفـانْتي (1936 - 1885)، الذي يُعدُّ الأب الروحي للقومية الأندلسية الحديثة وللحكم الذاتي الذي حصل عليه الإقليم في 1980، فقد بذل جهودا كبيرة لنشر الثقافة والفكر الأندلسييْن، من خلال تأليفه النشيد الأندلسي، وتأسيسه هيئات ومراكز وإشرافه على إصدار منشورات. كما كان أحد الموقّعين على ما يعرف بـ ''بيان قرطبة'' (1919) الذي أكّد على خصوصية الهوية الأندلسية، واعتبر الأندلس أمّـةً والأندلسيين شعبا. ولعل ما يثير الانتباه أكثر في مسار الرجل إعجابه الشديد بالحضارة العربية الأندلسية، وتقديره الدين الإسلامي (ذهبت روايات إلى أنه أشهر إسلامه في المغرب؟)، وتلقّيه دروسا في اللغة العربية، وانشغاله بتاريخ الأندلس نموذجا آسٍرا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود خلال العصور الوسطى. ومن فرط إعجابه بشخصية المعتمد بن عبّاد، شد رحاله إلى المغرب، وزار عدة مدن، من بينها بلدة أَغْمات التي يوجد فيها قبرُ المعتمد (1924). وقد حوّلته نهايته الدراماتيكية إلى أسطورة حية في إقليم الأندلس، بعد اغتياله بداية الحرب الأهلية (1936) على يد عناصر من حزب الكتائب اليميني، بسبب ميوله الجمهورية والفيدرالية وتحرّكاته لتأسيس حزب جهوي أندلسي.
ساهم الفكر القومي الأندلسي في تشكل سردية جديدة لتاريخ الإقليم في القرون الأربعة التي أعقبت سقوط الأندلس (1492)؛ تنطلق من أن حالة التخلف التاريخي العام التي شهدها الإقليم تعود إلى الاستغلال الاقتصادي الذي مارسه الإقطاع المحلي، المتحالف مع الحكم المركزي، الذي تعود جذوره إلى الملكيْن إيزابيلا وفرناندو اللذين أنهيا الحكم العربي الإسلامي في الأندلس. حالة التخلف هاته فاقمتها الحرب الأهلية وتداعياتُها المعلومة على المجتمع الإسباني خلال الحكم الفرنكوي. ويمكن القول إن شيوع هذه السردية بين ساكنة الإقليم ما فتئ يقلق القوى اليمينية. وفي هذا الصدد، سبق لحزب 'فوكس' اليميني أن طالب قبل سنوات، بشكل لا يخلو من دلالة، بأن يُستبدل يوم الأندلس، الذي يصادف 28 فبراير، بـ 2 يناير/ كانون الثاني (تاريخ تسليم غرناطة). وهو ما اعتبره ناشطون أندلسيون محاولةً لتحريف تاريخ الإقليم والنيل منه.
كان استفتاء 28 فبراير/ شباط 1980 لحظة مفصلية في تاريخ إقليم الأندلس، ليس فقط بحصوله على الحكم الذاتي، بل أيضا بتمكين سكانه من إدارة موارده الاقتصادية وتوظيفها في تحقيق التنمية بعد عقودٍ من تهميش الحكومة المركزية، غير أن التحولات العميقة التي شهدها الإقليم في العقود الأربعة المنصرمة، وفشل إقليمي الباسك وكتالونيا في تحقيق الاستقلال عن إسبانيا، وصعود الخطاب الوحدوي الأوروبي، ذلك كله جعل الخطاب القومي الأندلسي أكثر ارتهانا للحسابات الاقتصادية والمعيشية، سيما في ظل ما خلّفته جائحة كورونا من تداعيات.