عودة المجانين حينما تحتاجهم
لأنّهم تركوا الدنيا، هكذا، بلا حساب، بعدما أحرقوا بنوكهم الاجتماعية والاقتصادية، وخرجوا، هكذا، بزجاجاتهم الفارغة، حتَّى من الماء والصبر، وحتَّى عصيّهم التي يهشّون بها على أغنامهم، التي ركبت البحر أو ذهبت إلى هناك خلف جبال الغيوم.
هكذا هم في غيابهم، إلى درجة أنّ من خفّتهم ننساهم تماماً، وكأنّهم ما كانوا معنا قطّ، وحينما يحين حضورهم، يأتي ذلك لحكمةٍ ما، علّها لحاجة الأرض إلى ملحهم غير العاقل، حاجة الأرض لنزقهم اللطيف، ولتجوالاتهم، لسبابهم، الذي عادة لا يتوجّه لأحد بعينه، بل هو موجّه إلى لا أحد، أو لأحد رمزي، مضمر لديهم، لا يتمّ تعيينه أو تحديده، فالعلّة صارت في داخلهم وحدهم، والسبب غامض ومفتوح الدلالة على العالم أجمع، غامضٌ حتَّى عليهم هم.
هم في عراك مع ذلك، الذي صار هناك يتربّص بهم، ولا يزال، ويمنع غلالهم من الوصول لقواديسهم، يخطف منهم حظوظهم، يحطّم آمالهم الطيّبة، ويُعكّر مزاج طواحينهم التي تهرس غلال عرقهم في الجبال، هم هكذا، وأنت دائماً في حاجة إليهم، وهم في غير حاجة لأحد، هكذا هم، وهكذا تحمّلوا معيشتهم.
أحياناً، تراهم في المقهى وقد صهللت أرواحهم، وأحياناً، تراهم مساكين وقد خرجوا من معركة ظالمة خانتهم فيها كلّ خطواتهم وتدابيرهم، رغم أنّهم لم يفارقوا حائط المستشفى أو المقهى أو المدرسة أو الطاحونة.. الأمل تراه دائماً رائعاً، أروع حتَّى من طلعة النجوم.
تمشى الحياة هكذا بالجميع، بالمساكين وبالأقوياء وبالحكماء وبالساسة المُحنّكين، وبالمجانين، وأصحاب المحالّ التي كفّت أن تبيع، يذهب أصحابها فقط، لرؤية الناس والسؤال عن الأحوال والبضاعة، وأيضاً، يذهب أحدهم للمحلّ كي يطيب له الهواء بعد خنقة البيوت والتلفزيونات التي تنبح صباح مساء، هو كذلك، يخرج كي يرى آخر أحوال المجانين بعد ما غابوا شهوراً عن المشهد، رغم أنّ جُحا لا باع كلابه في الشام، ولا عاد بها إلى برّ مصر.
بعض المجانين قد عاد، وقد شقّ ثوبَه القديم للذيل، وبعضهم يجلس فوق كوبري قديم يتأمّل عيون اليمام التي اصطادها الصيّادون، وبعضهم انقطعت أخبارهم تماماً، وبعضهم قد عاد بعد شهور، وبعضهم قد مات دهساً، أو وجدوه ميتاً في غيط عنب، وبعضهم قد مات بلا سبب أو سؤال.
الهواء بالفعل كان طيّباً، رغم أنّ صاحب الدكّان كان عليلاً، الهواء أمام المقهى كان جميلاً، بل أجمل من هواء البيوت وأطيب.
لا أُحبّ مجانين الوزارات بلا عمل. أُحبّ مجانين الكتّاب والمتأدّبين في مكتبة باب الخلق القديمة فقط، وكم تمنيّت لو عشت مع كتاباتهم أو في معيّة حيواتهم الفقيرة، وخاصة المُتعفّفين منهم، بعد ما انصرفوا بعيداً عن أُسرهم وأجّروا غرفاً تُعجزهم في تسديد إيجاراتها، ولا أُحبّهم شرسين أو من الوجهاء، كما صوّر بعضهم ألبير قصيري، أُحبّهم هكذا مساكين فرّوا من قرب سواقي الفيّوم أو الباجور، بعد ما حصلوا على الابتدائية، وعملوا في مكتبات باب الخلق، وكانت لهم نوادرهم في غرفهم الفقيرة مع مجاوري الأزهر، وبعضهم خرج في المظاهرات، وبعضهم كان يشاكس العقّاد، أو شاكس حافظ إبرهيم في مقهى متانيا، وبعضهم أبخس من شأن الأفغاني، حيناً.
أُحبّ المجروحين منهم، وأيضاً، الذين يتعاملون مع الواقع في أدب وترفّع، مع الحفاظ على السخرية، كذلك، الرجل الطيّب الذي كان لديه كشكول من النثر، كتبه وهو يعمل في أرشيف الحشرات في كلية العلوم في الأربعينيات من القرن الماضي، وبعد المعاش سكن غرفتَين في "السطوح"، في بيت قديم في "المرج"، وتزوّج بعد الستّين، وأنجبت له زوجته محمداً وفاطمة، وكان يذهب إلى الندوات حتَّى بدايات الستينيات، إلا أنّه بعد ما باع القيراطين تزوّج من ابنة ابن عمه، ولكنّه يخاف من الأيام على محمد الضعيف وقليل الحيلة، ولا يخاف على فاطمة، ويصبّ اللبن للقطّة، وكان قد كبر، فزاره طالب درس في ألمانيا، كان يفتح له أرشيف الكليّة وهو طالب ماجستير، وضمّ محمداً وفاطمة، شفقة عليهما وعلى سنّهما، إلى مؤسسة ألمانية خيرية، بعد ما كبر ونسي تماماً حكايات الأدب، ونسي، أيضاً، حكاية القيراطين في بلدته، فقد قال للمشرف إنّه سيحوّل نصف معاشه لدفتر توفير محمد وفاطمة، حينما استلم منه المشرف الطفلَين ووقّع على الاستلام، ثم نظر إلى صورة قديمة يظهر فيها ببدلة في كليّة العلوم، ووزير التعليم، آنذاك، طه حسين في صدارة القاعة، وفي جلسته ميلة ما شبه حزينة.