"عين المكان" بعد "أميرة"
تضطرّك الزوبعة المهولة ضد الفيلم المصري الأردني الفلسطيني "أميرة" (إخراج محمد دياب، 2021) أن تحرص على مشاهدته، مسرَّبا إليك بكيفيةٍ ما، بعد أن جرت محاصرُته، ومَنع منتجوه وصنّاعه عرضَه. تتحرّر من أي تأثيراتٍ لحملة مناهضته الحادّة، ثم تُشاهده، فلا يُعجبك. تلقاه لا يتوفّر على مقادير كافيةٍ من التوفيق الفني ومن جمال السينما الجذّابة، بل وترى فيه كثافةً من التصنّع والتكلّف في توليفة الحدث المركزي فيه، وكذا في نهايته الساذجة، والتي تهين عقل المشاهد وخياله. وهذا انطباعٌ، لأيٍّ أن يرى غيرَه إذا شاهد الفيلم الذي كانت المطالبات بمنعه بسبب الحساسية البالغة التي تتّصف بها قضية نُطف الحياة المهرّبة من أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، وليس بسبب ما رُمي به بغير حقّ، عن تبنّيه سرديةً إسرائيليةً بشأن نضال الأسرى وكفاحهم. وهذا ليس صحيحا، بل ينتسب "أميرة" إلى حزمة أفلامٍ عربيةٍ تجتهد في تصوير طرائق مقاومة الشعب الفلسطيني التجبّر الإسرائيلي. أما أنه أخفق في تعبيره عن مُراده هذا فأمرٌ آخر، عندما ذهب إلى موضعٍ شديدِ الخصوصية، احتاج من المخرج محمد دياب وأخٍ وأختٍ له، لمّا أنجزوا السيناريو، درايةً بما يكتبون عنه، ومعرفةً أوفى به، وقبل هذه وتلك، إحاطةً بخصوصياتٍ تتعلق بأسرى فلسطينيين. والراجح أنهم لم يحرصوا على أن يُحرزوا هذه الضرورات. ربما توهّموا أنهم، بإشارةٍ مكتوبةٍ في مختتم الفيلم عن صدق نسب الأطفال الفلسطينيين المولودين من نطفٍ مهرّبةٍ، وكذا باستشهاد الفتاة مختلّة النسب، والمولودة من نطفة جنديٍّ إسرائيلي، برصاص إسرائيلي (يا للسذاجة والسماجة)، يكونون قد طرحوا رؤيةً تُنجي صناعتَهم قصة متخيّلةً من أي مأخذ. ولعلها مفارقةٌ أن فيلم دياب الأول "678" (2010) كان جذّابا ومحكما، ودالا على موهبة صاحبه وأهليّته، فيما "أميرة" جاء مثقلا بمقادير عالية من السطحية والارتجالية والافتعال، وإنْ يجوز التنويه بكفاءة ممثلين فيه.
لا يعود نقصان الجدارة الجمالية والفنية في الفيلم إلى أنه قام على تخيّل قصةٍ لم يحدث مثلها في الواقع، فهذا بديهي في الفنون، فلك أن تصنع قصة حبٍّ في أثناء الحرب العالمية الثانية، بين جندي ألماني وشابّة فرنسية، ولكن ليس في وسعك أن تتخيّل أن ألمانيا انتصرَت على دول المحور، إلا إذا أردتَ إنجاز فيلمٍ بحسٍّ كاريكاتوري طافحٍ بالسخرية والكوميديا والمفارقات التي تتوسّل الفكاهة بكيفياتٍ لا صلة لها بواقعٍ معلوم، من قبيل الذي صنعه صلاح أبو سيف في فيلم "البداية" (1986). ومن هنا أهمية حلقة الأحد الماضي من برنامج الوثائقيات "عين المكان" على شاشة تلفزيون العربي (منتج منفذ نائل الشيوخي، إخراج عبادة البغدادي)، "سفراء الحرية"، عن تهريب نطف أسرى. ما غاب عن محمد دياب، مخرجا وكاتبا مشاركا للسيناريو، هو ما يحضُر في هذه الحلقة الوثائقية التي اشتملت على شهاداتٍ ومعلوماتٍ من مصادرها، فليس الذي شوهد في "أميرة" هو الحقيقي عن تهريب أسرى نطفا منهم إلى زوجاتهم من أجل إنجاب أبناء، وبذلك لا تحدُث تلك "المؤامرة" التي ارتكبها الجندي الإسرائيلي، عندما وقع بين يديه "كيس" ماء الحياة الذي أراد الأسير تهريبَه إلى زوجته، ليُنجبا أخا لابنتهما، ثم لتتدحرج وقائع في الفيلم تعرّفنا أنه عقيم، فينكشف النسب المختلّ للابنة التي لا تهتزّ مكانتها عند "والدها" المفترض الأسير. وهنا، لا ترى في "أميرة" فلسطينيين في وطنهم المحتل تماما، في المشاهد التي تتابعت، وإنما حبكة ميلودراما تتوسّل تشويقا وحسب، ربما ساهم أداء الممثلة صبا مبارك الجيّد في تصعيده.
يقول مدير مركز تخصيب في فلسطين، وهو طبيبٌ مختص، في "عين المكان"، إن فكرة تهريب أسرى نُطفا جاءت، بداية، على بال أسير كان يعاني في الإنجاب، ولجأ إلى تقنية أطفال الأنابيب، ثم ابتدع الأسرى طرائق التهريب، شديدة التحوّط، وبترتيباتٍ معقدة، بالنظر إلى قبح الاحتلال (كما قال أسير أنجز إنجابا بنطفةٍ مهرّبة)، وبدراية شهودٍ من أسرتي الزوجين، حتى تحقّقت أول عملية ناجحة في 2010 (الأسير عمّار الزبن)، بعد محاولاتٍ لم يحالفها التوفيق، فصارت عمليات التهريب في "قالب شوكولاتة" و"قلم حبر"، وغيرهما من وسائل. وقد دلّ هذا كله على إبداعٍ كفاحي، أكّدت حلقة "عين المكان" لمشاهديها فرادَته، وقد أبلغتنا أن 102 طفل تم إنجابهم، حتى نهاية العام 2021، بهذه الكيفية المبتكرة، المحصّنة من أي شبهة، والتي اصطنع بشأنها فيلم "أميرة" حكايةً لا تقف على أساس، فسقط فنيا وموضوعيا، فيما نجحت الحلقة التلفزيونية وثائقيا ومهنيا.