"عُمرِ الظلمِ ما أخّر بُكرا"
"عُمرِ السجن ما أخًرّ بكرا
".. كانت صيحة الناشطة اليسارية، ماهينور المصري، لدى ظهورها في المحكمة، متحدية حكم العسكر، وطغيان السلطة على القضاء المصري، والأهم، متحدية الإحباط واليأس، لأن الأمل هو نَفَس استمرار الثوار وضمانته.
حكاية ماهينور من حكاية ثورة شعبٍ خنقته مؤامرات الدولة العميقة والدول الشقيقة، وانحطاط إعلام وبشاعة استغلال عربي وإقليمي ودولي لأم الدنيا، لأن من غير المسموح أن يقود مصر نظام عربي جديد، مستقل من التبعية ومتحرر من قيود الديكتاتورية.
ماهينور واحدة من آلافٍ في أقبية السجون المصرية، وليست حياتها أغلى من حياة أيٍ منهم، يسارياً كان أم إخوانياً، لكن قصتها قصة كفاح الظلم في كل العصور؛ إذ من يؤمن بالحرية لا يقبل بتجزئتها، ومن قاوم الإقصاء لا يرضى بالإلغاء وامتهان الإنسانية.
من المشاركة في الكشف عن قتلة خالد سعيد، إلى النزول إلى ميدان التحرير في 25 يناير، ومرة ثانية في 30 يونيو، ماهينور تمسكت بمبادئها، لكنها اكتشفت أن مهادنة انقلاب عسكري، أو السكوت على ارتكاب مجزرة ضد خصمها الأيديولوجي، أي الإخوان المسلمين، تتناقض مع حلم الحرية والعدالة الاجتماعية.
العدالة ليست شعاراً نرفعه ثم نمزقه، بل وندعس عليه في سبيل راحةٍ وهميةٍ من مخاوفنا وذعرنا، فمن لا يقبل تعذيب خالد سعيد لا يقبل بقتل أسماء البلتاجي في ميدان رابعة العدوية. ومن يقبل بذلك على حساب إنسانيته وضميره، فقد يأتي يوم يكون فيه الضحية، ففي المعتقلات المصرية، اليوم، من كان في ميدان رابعة من الإخوان جنباً إلى جنب مع من أيد عزل محمد مرسي ورحب بحكم العسكر، ليجد نفسه في مرمى سهام ظلامٍ، رأى فيها فجر حرية.
لا تُقاس المسائل المصيرية بموقف سياسي أيديولوجي متعصب، إلى درجة تضييق رؤيتنا وخنق الرحمة في دواخلنا، فالموقف من الإخوان المسلمين، وأنا ممن تفاعلوا وشاركوا في مسيرات في القاهرة ضد دستورٍ، حمل في ثناياه أسس دولة دينية، وغابت عنه أسس العدالة الاجتماعية، لكن التأسيس، بل وترسيخ حكم عسكرٍ ممعنٍ في التبعية والاستهتار بالحقوق الاقتصادية ليس حلاً، بل كارثة وطنية وقومية، بل وإنسانية. بل وكارثة أخلاقية، لأن فينا من يهلل لاعتقال ميهانور ومذبحة رابعة العدوية، ويرحب بسجن صحافيين من "الجزيرة" بحجة انعدام المهنية، وكأن الاعلام المصري الذي وصل إلى درك غير مسبوق في انعدام الأخلاق مثال للمهنية والموضوعية، وكأن المجازر ضد خصم سياسي.
ليست هذه السطور بكائيةً على حقوق الإنسان، على الرغم من أن هناك الكثير مما يوجع القلب ويبكيه، بل عن تقويض حلم ونسف رؤية الدولة المدنية المبنية على حقوق المواطنة المتساوية، وهي كلمات لا معنى لها من دون دساتير، تضع الأسس لعدالة اجتماعية، وتحمي موارد الاقتصاد الوطني من الاحتكار والتفريط والهدر، بل ما انتقدناه في عهد مرسي أصبح سياسة ممنهجة الآن: فلا استقلال للقضاء، ولا وقف لرفع الأسعار.
أصابنا هوس بهزيمة الإخوان المسلمين، فلا ننتبه إلى أن مصر عبد الفتاح السيسي بعد أن توجَ ديكتاتوراً منتخباً، أو إلى أخبار اتفاقية استيراد غاز إسرائيلي وشيكة، وأن الدوائر الصهيونية في أميركا، مرتاحة للتنسيق بين النظام الجديد القديم مع كل من الكيان المستكبر في عنجهيته على الفلسطينيين والعرب ومع دوائر قرار الهيمنة في واشنطن.
لمَ لا نسأل اليساري خالد علي، الذي رفض التعاون والتواطؤ مع العسكر، عن مصير القضايا التي رفعها وربح بعضها، بإلغاء اتفاقات خصخصة لصناعات مصرية استراتيجية، وما هو وضع حقوق العمال في مصر، وهو الذي صرخ وحذّر، منذ البدء، بأنه، ومنذ الأيام الأولى للانقلاب، هناك هجمة على عمال الموانئ، وتقويض للنقابات المستقلة، ولم يسمعه أحد وسط ضجيج إعلام الشيطنة والكراهية، ومفرقعات نصر على الإسلام السياسي، لتبزغ لنا داعش ودواعش.
ليس غريباً أن يكون خالد علي موجوداً في محكمة ميهانور المصري، فهو محاميها الذي أعلن، مراتٍ، أنه سيمثل جميع المظلومين، وعائلات ضحايا جرائم الحكم، بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية، يسارية أو ليبرالية، إخوانية أو علمانية، فلم تعمه خصومته السياسية لحكم مرسي من الوقوف ضد حكم العسكر، لأن الأساس أن الحرية لا تتجزأ، ولأن "عمر الظلم ما أخَر بكرة".