غابة من الأعداء
عندما كنّا صغاراً، كنا نتجول بين دور السينما التي كان لها رواد في ذلك الوقت، وكنا لا نفضل قصص الحب الذي لم تكن هرموناته قد اندلعت في دمائنا. وكنا نفضل الأفلام الحربية التي كانت في معظمها أفلام كاوبوي أو من الحرب العالمية. وكانت هناك أفلام كثيرة تستقي موضوعاتها من الفترة الرومانية، وفيها معارك سيف وترس حامية الوطيس. وكان يسبقنا مستطلعٌ إلى واجهة السينما، حيث تُعرض هناك صور من الفيلم، فيعود إلينا خائباً أحياناً، قائلاً: "فيلم حب"... فنعود على أعقابنا باحثين عن دار سينما أخرى، فإذا كانت الصور المعروضة هناك لفيلم حربي من تلك التي تحدثت عنها أعلاه تنشرح صدورنا ونقرر مشاهدته، وسواء كان الفيلم من أيام الرومان أو كاوبوي كنا نسأل من سبق أن شاهده "أيّاهم معنا وأيّاهم مع إسرائيل؟" فيجيب على سؤالنا ويشير إلى الشخصيات التي في صفنا والشخصيات التي في صف إسرائيل. وندخل إلى الفيلم نحمل من شخصياته موقفاً مسبقاً. لم يكن لدينا في ذلك الوقت سوى عدو واحد هو إسرائيل.
بعد ذلك، نضجت الهرمونات، وصرنا نشاهد أفلام الحب، ولم تعد أفلام الحرب تستهوينا بالقدر نفسه كما في السابق. وأصبحنا أيضاً نكتشف الأعداء خارج إطار هذه الأفلام، الأعداء الذين كانوا يعيشون معنا وليس فقط الذين تفصلنا عنهم الحدود والأسلاك الشائكة وحقول الألغام، وأول عدو اكتشفناه رجل الشرطة الذي كانت مهمته أقرب إلى كلب الراعي الذي تتلخص مهمته في ضبط القطيع، لا خدمة الرعية، يناديه الجميع بـ "سيدي" عندما يجيبون على أسئلته، رغم أنّه ليس سيداً على الإطلاق، يمرّغ أنف أبيك في الوحل، من دون أن تجرؤ الغالبية على الرد، وإن تجرأوا يدفعون ثمناً أغلى.
كبرنا قليلاً، وصرنا نفكّر بالسياسة ونتحدّث فيها، فاكتشفنا عدواً من الفصيلة نفسها تقريباً، لكنّه أكثر شراسة وأحدُّ ناباً، إنّه رجل الأمن الذي يطلق عليه الناس اسم "مخابرات"، والذي لا يكتفي الجميع بوصفه "سيدي" بل يتجاوز الأمر ذلك، إذ ترتعد فرائصهم أيضاً، حين يتورّطون في احتكاك معه. صرنا نفكّر أكثر فاكتشفنا عمليات نهب كبيرة تتعرّض لها ثروات الوطن، فبرز في وجوهنا أعداء جدد، هم رموز الفساد، وجلّهم أبناء سلطة، ويمارسون فسادهم ونهبهم تحت رعايتها، وتتسع الدائرة، حين تكتشف أنّهم ليسوا تحت رعايتها فقط، وإنّما شركاء لها ووجهها الاقتصادي الخفي. وتتسع الدائرة حين تكتشف أنّ نواب البرلمان الذين تتلخص مهمتهم بالدفاع عن مصالح الشعب يشكلون كتلة من شهود الزور تستدعيهم السلطة كلما احتاجت لهم من أجل تلبيس الشعب موقفاً ما، وكلما توغلت أكثر في اللعبة السياسية اتسعت هذه الدائرة أفقياً وشاقولياً، حتى يتشكل لديك شعور بأنّك تسبح في لجّة من الأعداء، سرعان ما سيغرقونك ويكتمون أنفاسك، ولا تدرك ما عليك فعله، لا بل تدرك أنّك عاجز عن فعل شيء، وأنّ الوقوف في وجه هذه اللجّة ضرب من الغباء والجنون. ولذلك يتأقلم معها كثيرون، ويتحوّلون إلى "عزقاتٍ" صغيرة في آلتها، بينما يُصاب الآخرون بالاكتئاب، ويمضون بقية أعمارهم ضمن مساحةٍ من المشاعر السلبية. وإذا فكروا بالتمرّد على هذه الآلة، فإنّها تطحنهم من دون رحمة. ولأنّ الضغط، في نهاية المطاف، يصل إلى نقطة لا بد أن يولد بعدها الانفجار، تحدث، أحياناً، تمرّدات تعوّل عليها. لكن، سرعان ما تستولي على هذه التمرّدات دوائر لا تختلف كثيراً عن الذين حدثت ضدهم، ويشكل آلة شبيهة لهم فيها رجل الشرطة المستبد ورجل الأمن الخالي من الرحمة والأخلاق معاً وتجار الحروب ورموز فساد تنتمي إلى سلطة فساد. وتكتشف أنّ دائرة الأعداء تزداد وتزداد، حتى ترى نفسك وسط غابة من الأعداء، لا ترى صورهم في الواجهات الزجاجية لدور السينما، وهم لا يمثلون على الشاشة، وإنّما على مسرح الحياة، حياتك.