فرانكنشتاين السودان الذي لا يتعلّم
أجاز برلمان الحركة الإسلامية في السودان، في عام 2017 قانونَ قوّات الدعم السريع، وافتخر الرئيس السابق عمر البشير بأن تكوين المليشيا هو أفضل قراراته. يومها، نشرت الصحف تصريحات للواء (وقتها) محمد حمدان دقلو (حميدتي) بأنه يأمل إنشاء قوّة جوية. دعم النظام السابق قوّات الدعم السريع بكوادرَ عسكريةٍ من الجيش وجهاز الأمن والمخابرات. وأصبح الانتداب إليها فرصةَ عمرٍ لعسكريين كثيرين.
بعد الثورة السودانية، سيتفاخر قائد الجيش، الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان، بأنه عمل مع حميدتي سنواتٍ في دارفور، سنوات الإبادة والتهجير. قدّمت "الدعم السريع" هناك "بروفة" لما ستفعله بعد سنوات في البلاد كلّها. وسيقول البرهان إنه مَن ذهب إلى حميدتي وأقنعه بالعمل معه بعد الثورة. رقَّى البرهان صديقه القديم نائباً له في قيادة المجلس العسكري، الذي يضمّ قادة الجيش، وأصبح حميدتي قائداً لضبّاطٍ عظام، يؤدّون له التحية العسكرية.
نفّذ الحليفان محاولات لوراثة سلطة البشير. بدايةً من مجزرة القيادة العامة في 3 يونيو/ حزيران 2019، وحتى انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. في 30 يوليو/ تمّوز 2019 (قبل أربعة أيّام من التوقيع مع القوى المدنية لتقاسم السلطة) ألغى البرهان (رئيس المجلس العسكري وقتها) المادّة القانونية التي تُخضِع "الدعم السريع" لقانون الجيش السوداني. قدّم الجيش حميدتي ليمثّله في المفاوضات مع المدنيين، ثمّ في المفاوضات مع حركات الكفاح المسلّح الدارفورية.
قاوم قائد الجيش أيَّ حديث عن دمج "الدعم السريع" في الجيش، وكرّر كثيراً أن هذا حديث يُراد به الفتنة والوقيعة بين الجيش وقوّات الدعم السريع (!)، وسخر من مهاجمي "الدعم السريع" قائلاً، إنها "قوّات تسهرعلى حماية البلاد بينما منتقدوها ينامون في بيوتهم".
لا نعلم إلى أيّ مدىً كان سيصل تمدّد "الدعم السريع" لو لم ترتبك العلاقة بين الصديقَين القديمَين. في الوقت نفسه، ظهرت الخلافات الحادّة بين حميدتي والحركة الإسلامية التي حاولت إعادة احتواء الوحش ووضعه تحت جناحها مرّة أخرى. لكنّ حميدتي، الطامع في وراثة التنظيم القوي، لم يعد يقبل أن يكون مُجرَّد منفّذ لعملياته.
لقد تغذّى الوحش، واكتمل تسليحه، وعزّز علاقاته الدولية والإقليمية برعاية السلطة العسكرية. فلما حانت لحظة المواجهة، في 15 إبريل/ نيسان 2023، كانت قيادة "الدعم السريع" الميدانية في يد ضبّاط جيش باعوا ولاءهم العسكري للرجل الذي انتدبتهم مؤسّستهم للعمل معه، مثل قائد العمليات اللواء عثمان محمد حامد، الشهير بعثمان عمليات، وهو ضابط اشتُهِر بقيادته قوّات الدعم السريع في معاركها ضدّ حركات دارفور. ومثل مدير مكتب حميدتي، اللواء حسن محجوب. هؤلاء، وغيرهم من الرتب الكبيرة، كانوا يعملون تحت إمرة حميدتي سنواتٍ وعزّزوا قوّته، وانحازوا له بعد الحرب.
وانحاز لـ"الدعم السريع" أعضاء في الحركة الإسلامية، من الذين ظلّوا بعد الثورة في صفّ المكوّن العسكري، ويناصبون الثورة والمدنيين العداء، لكنّهم ساعة الحرب انحازوا إلى قبائلهم. يتكرّر ما حدث عام 2000 مع تمرّد ابن الحركة الإسلامية خليل إبراهيم، مؤسّس حركة العدل والمساواة، التي يقودها اليوم شقيقه جبريل، وزير المالية في تحالف الحركة مع الجيش السوداني. خرجت الحركة الدارفورية من عباءة الحركة الإسلامية، وتمرّدت عليها، وهو التمرّد الذي دفع الحكومة السودانية وقتها لتكوين قوّات الجنجويد لمواجهته.
رغم ذلك، ما زالت الجهات التي صنعت الوحش تحاول إنكار مسؤوليتها، وتحصر المشكلة، لا في صنع الوحش، إنما في تمرّده، لذلك تطلق الاتّهامات ضدّ من تظنّ أنهم حرّضوا "ابنها".
تظهر خطورة الإنكار في إعادة تجربة "الدعم السريع"، فما زال الجيش والحركة الإسلامية يُنشئان مليشياتٍ جديدةً لمواجهة الصنيعة السابقة.
قبل الحرب بأسابيع، ضجر حميدتي، ولام المدنيين: "لم يكن أحد يتحدّث عن دمج "الدعم السريع" قبل أن تقترحوه". يعلم الرجل أن التي ترفضه هي الثورة لا غيرها. فالآخرون لا يعتبرون المليشيات مشكلةً.
ومثلما حدث من قبل، يتململ بعض العسكريين، ويحذّر المدنيون، لكن فرانكنشتاين السودان يؤمن بأن إعادة خلق وحشٍ لمقاتلة وحشٍ عملية ناجحة وذكية، كأنّ السودان، والإقليم كلّه، لا يدفعان ثمن صناعة الوحش السابق (!).