فرص تشكل السلطوية في تونس وإمكانية مقاومتها
لا يمكن إنكار أن هناك قطاعات شعبية واسعة في تونس رحبت بالإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، وأنها اعتبرت انفراده بالسلطة وامتلاكه كل الصلاحيات انتصارا للشعب والدولة على نظام سياسي راكم الأزمات والفشل، وهي تأمل أن تنتهي مرحلة العشرية السوداء (توصيف رائج لحكومات الثورة وتقييم عام لها)، وتبدأ معه مرحلة جديدة تتضمّن تسيير دواليب الدولة ومواجهة الفساد، وانتعاش الاقتصاد، لكن هذه الأماني التي تنشدها قطاعاتٌ شعبيةُ، وتنعكس على استطلاعات رأي، لا يمكن أن تدوم مستقبلا، إذا ما استمرّ مشهد الأزمة الشاملة، والذي تراهن قطاعاتٌ من الجمهور على الرئيس المنفرد بالسلطة في حلّها، خصوصا أنه يتصرّف منفردا من دون مستشارين، ولا يمتلك رؤية تعبر عن انحياز اجتماعي للثورة، ولم يطرح خريطة طريق بعد الإجراءات الاستثنائية. ولا يخرج خطابه عن نطاق النقد السياسي ومكايدة الخصوم وتخوينهم وإتحافه المجتمع بسرديات المؤامرة، وتتّصف خطواته وقراراته بمنهج التجريب والارتجال، واختبار مواقف القوى السياسية والاجتماعية. وتستند بالأساس إلى قناعةٍ بنموذج حكم الفرد، وتحقير السياسة، ويسعى إلى إقامة نظام رئاسي، وحكومة كتّاب دولة. وهذا تعبير عن سلطوية عربية، في نسخةٍ تخصّه، خليط من تصوّرات ماضوية متناثرة من هنا وهناك، يتم استدعاؤه في خطاباته ولقاءاته مع المسؤولين وكأنهم في فصل دراسي. يطرح اللجان الشعبية والثورة الثقافية وغيرها من مصطلحات زمن الستينيات التي يراد فرضها اليوم لحكم الفرد المجدّد، وتستخدم لتصوير أن هناك نظاما جديدا يتشكّل لحماية الثورة وتحقيق أهدافها.
المشهد التونسي شبيهٌ بمحطّات تعثر الثورات العربية، لكن الفرق هنا أن السلطة الجديدة لا تعلن رفضا للثورة أو تنفيها
وتتمثل فرص نشأة سلطوية جديدة بما تتضمّنه من تعظيم شخص الرئيس، والتعبئة السياسية ضد الخصوم وإطلاق خطابات تحريضية، وتهميش الحركة السياسية، في ثلاثة أسباب رئيسية، أولها، رغبة الشارع التونسي وطموحاته في التغيير، ومراهنة قطاعات شعبية على شخص الرئيس، بعد التجربة البرلمانية التي لم تؤت ثمارَها. ثانيا، وضع القوى السياسية التونسية المفتّتة، والتي يخضع قسم منها لقصر نظر يجعل معارضة حركة النهضة إطارا دافعا لمساندة قيس سعيّد، مع مغازلة ومسايرة للقبول الشعبي بالإجراءات الاستثنائية. وقسم آخر، متحفظ، غير قادر على بناء قطب جاذب، وطرح رؤية مغايرة تطالب بمسار سياسي محكوم بدولة المؤسسات وآليات الديمقراطية، ووضع خريطة طريق للنقاش المجتمعي، بما فيها من قانون انتخابات تشريعية جديدة، ولائحة مطالب اقتصادية تلبّي مطالب القطاعات الشعبية. ثالثا، وجود تحالف ضمني بين الرئيس والمؤسّسات الأمنية، اتفق طرفاه على إحداث تغيير عبر الدستور لاحتواء الحركات الاحتجاجية ووقف سيناريوهات تطوّرها، أو جنوح البلاد إلى حالةٍ من عدم الاستقرار، ومع عدم إغفال المؤثرات الاقليمية والدولية.
وهذا المشهد التونسي شبيهٌ بمحطّات تعثر الثورات العربية، لكن الفرق هنا أن السلطة الجديدة لا تعلن رفضا للثورة أو تنفيها، بل تتغنّى بشعاراتها وتغازل جمهورها، وتطرح فكرة تمثيل القواعد الشعبية في السلطة، ويطرح قيس سعيّد نفسه من دون مواربة ممثلا للشعب، ويقود ثورته (وكأنه أحد قادتها) بمعزلٍ عن قوى سياسية يصنّفها بالانتهازية والفساد، يتغنّى بالشعب بوصفه ممثلا وحيدا عنه، وعن ثورته بوصفه أمينا عليها. وعلى عكس باقي نماذج الثورة المضادّة التي تنطلق من إدانة الثورة واعتبارها فاقمت أزمات المجتمع والدولة.
إذا استمرّت حالة الجمود السياسي، وكذا ارتفاع مظاهر البوليسية وخطابات التخوين والاستقطاب الحاد، فستنتشر ثقافة التشكيك والخوف والتوجس
يتّخذ سعيد القفز على جسد الثورة، ويغازل أماني جمهور يراهن على فردٍ، بعدما خسر رهانه على منظومة الانتخابات والبرلمان والسياسيين. لذا يحتقر الرئيس الذي يزهو بنفسه النخب، ويصفهم بالانتهازية والطمع والتكالب على المصالح وتخوين بعضهم إذا ما اختلفوا، ويصف بعضهم بالحشرات مرة، والباحثين عن الزبالة مرّة أخرى. ويستخدم آليات قانونية للعقاب بشكل انتقائي في صراعه السياسي، غير مكايداتٍ لا يخلو بعضها من شخصنة، وهو ما سيستمر في الخطاب، وربما الإجراءات، طالما ظل الفرد متحكّما في أجهزة الدولة والسلطة فيها.
سيختبر الاحتفاء بقيس سعيّد ومنظومته والمتحلقين حوله عبر تقييم الممارسات والخطوات العملية قريبا، وما إذا كانت قادرةً على تفكيك الأزمة أو لا، وحتى مع محاولات استيعاب كتل سياسية واجتماعية مستقبلا، إلا أن ذلك لن يحلّ المعضلة الأساسية التي كانت سببا في احتجاجات شعبية سبقت الإجراءات الاستثنائية، وهو غياب تمثيل حقيقي للقطاعات الشعبية والشبابية، يترجم أهداف الثورة ومطالبها الاجتماعية والاقتصادية، وفشل سياسات حكومات ما بعد الثورة. وحينها سيعود الصراع السياسي بين الأطراف الفاعلة، وربما تتبدل مراكز القوة، لتفرض معادلة جديدة من التشاركية، تساهم فيها الحركات الاجتماعية على خلفية أزمات قابلة للتفجر. أما إذا استمرّت حالة الجمود السياسي، وكذا ارتفاع مظاهر البوليسية وخطابات التخوين والاستقطاب الحاد، فستنتشر ثقافة التشكيك والخوف والتوجس، ما يسبّب حالة تقسيم وتفتيت في الجسد الاجتماعي والسياسي بشكل أكبر.
إيجاد حالة تعبئة جماهيرية عن خطورة الوضع الراهن، وممارسات السلطة على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني، وتقديم نقدٍ لما تقدّمه
وأمام مخاطر السلطوية، ومن داخلها أيضا، هناك فرصٌ لمقاومتها، منها قدرة الفرقاء السياسيين على إدارة حوار فيما بينهم، وتحديد خريطة طريق وطرحها مجتمعا وفرضها مستقبلا. وثانيا، إيجاد حالة تعبئة جماهيرية عن خطورة الوضع الراهن، وممارسات السلطة على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني، وتقديم نقدٍ لما تقدّمه. وثالثا الدفاع عن الحريات والحقوق أمام حوادث تكرّرت تشير إلى محاولات لعودة الدولة البوليسية، منها عنف ضد المحتجين كما جرى في صفاقس أخيرا، اقتحام منازل بعض المواطنين، التضييق على الحريات. وسيكون هذا الملف محل اهتمام كل القوى السياسية، بمن فيها الذين أيدوا القرارات الاستثنائية لقيس سعيّد، وأدرك بعضهم، الآن، أن السلطة ليست وحسب رافضة الحوار ومبدأ التشاركية، بل يتعرّضون للتهميش، وإبعادهم من المشهد تماما. ورابعا، إعادة طرح المطالب الاجتماعية والاقتصادية للثورة، وتقديم برنامج إسعافي عاجل وممكن، في مواجهة خواء جعبة السلطة من حلول أو طرح بدائل جادّة وعادلة لحل المعضلة الاقتصادية، بما فيها الوعود بالمساعدات من أطراف عربية لم تؤت نتائجها، ما جعل السلطة تطالب الشعب الذي عانى من أزمة الاقتصاد أن يصلحه!
وإجمالا، وفي ظل حالة صيرورة، لا يمكن الجزم بانتصار السلطوية في تونس، وأن تجربة هذا البلد ستلحق بثوراتٍ عربيةٍ هزمت، ومكونات المجتمع تترقب وتتفاعل. وستكون السلطة محل اختبار في الأشهر المقبلة، أو أن تحقق بعض نجاحات، أو سيفيق الشارع من المراهنة على حكم الفرد فى حل مشكلات وأزمة شاملة ومركبة، من دون مؤسسات سياسية وتمثيل لقوى اجتماعية، وهو أمر غير واقعى، يفتقد الأسانيد، سواء من زاوية الإدارة، أو حتى من منظور التنوع وتمثيل أشكال الصراع الاجتماعي من خلال عمليةٍ سياسيةٍ لا بنفيها.