فرنسا والإرهاب .. من ينزع الفتيل؟
العمل الإرهابي الذي أقدم عليه مهاجر تونسي، في نيس الفرنسية، وراح ضحيته مواطنون فرنسيون، وتلته أعمال متفرّقة، غذّى، في ساعات قليلة، معاداة المهاجرين. انتشرت في صفحات التواصل الاجتماعية دعوات إلى الثأر لضحايا تلك الأعمال من الجاليات المسلمة. دخل الشاب التونسي الذي أقدم على ذلك الفعل، قبل بضعة أشهر فقط، إلى أوروبا. أوصله أحد المراكب البحرية البالية إلى الشواطئ الإيطالية. تقول تصريحات أولية أدلى بها الأمن الفرنسي إن الفتى دخل متسللا إلى إيطاليا، قبل أن يدخل فرنسا بشكل غير شرعي. وتفيد المعلومات الشحيحة التي انتهت إلى وسائل الإعلام بأنه محدود المستوى التعليمي، وتأثر بتنظيم أنصار الشريعة، المحظور في تونس منذ سنة 2013 إثر اغتيال القياديين في المعارضة التونسية، شكري بلعيد ومحمد البراهمي. لا أحد يعلم تماما إن كان الشاب التونسي ظل منتميا الى ذلك التنظيم أم لا، وما إذا كان قد طُلب منه الخروج إلى أوروبا لتنفيذ إحدى العمليات الإرهابية ذئبا منفردا؟ أم أنه هاجر بشكل غير شرعي، لكونه مطلوبا للأمن التونسي، أو هاجر طلبا للرزق، ثم تم استقطابه بسرعة لإعادة توظيفه في مثل ما قام به؟ أسئلة عديدة يسعى الأمنان، التونسي والفرنسي، إلى الإجابة عنها.
وفي انتظار العثور على معلومات تؤيد إحدى الفرضيات المطروحة، تدخل الجاليات الإسلامية في فرنسا، المتكونة في أغلبها من مغاربيين، حالة خوف وهلع، خشية أن تطاولها عمليات انتقامية، خصوصا وأن مثل هذه الحالات سجلت سابقا في بلدان أوروبية، منها هولندا، على إثر اغتيال السينمائي تيو فان غوغ سنة 2005، وإسبانيا وألمانيا، .. إلخ.
ليست هذه المرة الأولى التي يضرب الإرهاب فيها فرنسا، على خلفية ما عدّ إساءة للدين الإسلامي. من أهم العمليات الشنيعة الاعتداءات الآثمة التي راح ضحيتها صحافيون من مجلة شارلي إيبدو، وتوالت عملياتٌ أخرى لاحقا. وسيتم، على المستوى الرسمي، اتخاذ سلسلة من الإجراءات، لعل أهمها تشديد قوانين الهجرة، علما أن فرنسا ظلت أكثر الدول تشدّدا في سياستها بشأن الهجرة. ولقد أدى ذلك إلى نزاعات بينها وبين جارتها إيطاليا. وقد وجدت فرنسا في عمليات الأسبوع الفارط الإرهابية ذريعة لمزيد من التشدّد، علما أنها لم تتحمس، منذ عقود، في تليين قوانينها لاستقبال وفود المهاجرين أو اللاجئين، بل إنها لامت ألمانيا على كرمها تجاه هؤلاء، بل أقنعت بها دولا أخرى في الاتحاد الأوروبي للاقتداء بها.
فرنسا مصرّة على أن لديها درساً هو بمثابة الوصفة تقدّمه للمسلمين
كان لفرنسا موقع خاص لدى العالم الإسلامي، ما قد يعود إلى إرثٍ استعماري قديم، يرجع إلى ذلك اللقاء المربك والمبكر بين نابليون بونابرت والمشرق، خصوصا في مجال مصري كان قلب العالم الإسلامي النابض آنذاك. ثم بلورت فرنسا مدارس استشراقية عديدة، تنوعت بين متيمة بالعالم الإسلامي وأخرى داعية إلى القطيعة معه. ولكن فرنسا ظلت، حتى بعد استقلال تلك البلدان، تحوز مكانة خاصة. انتصرت لقضايا عربية عديدة، ولكنها أيضا خذلت قضايا أخرى عديدة، وكانت مصالحها وضغط اللوبيات اليهودية فيها وراء تلك التحولات الخطيرة في موقفها من قضايا العالم العربي العديدة، ولعل أهمها القضية الفلسطينية. ولن تدفع مثل هذه العمليات الرأي العام الفرنسي إلا إلى مزيد من كراهية الأجانب، وتحديدا الجاليات الإسلامية المقيمة هناك منذ عقود. ولعل المناوشات التي اندلعت بين أفراد من الجالية الجزائرية ومواطنين فرنسيين من أنصار اليمين المتطرّف، إنذار جرس يقرع، على السلطات الفرنسية أن تأخذه بالاعتبار، قبل أن تجنح البلاد إلى موجات عنف معمّم، ينمي العنصرية ومعاداة الأجانب عموما، وتحديدا الجاليات المسلمة، أو لمغاربيين منهم بشكل خاص.
حرية التعبير في فرنسا مقدسة، ولكن لها خطوطا حمراء، ترسم عندما تقترب من اليهود وتاريخ المحرقة
ثمّة تيارات يمينية تشتغل لفائدة حساب اللوبيات اليهودية، تدفع الأمور إلى مزيد من الحدة والتطرّف. حرية التعبير في فرنسا مقدسة، ولكننا نعلم أن لها خطوطا حمراء، ترسم عندما تقترب من اليهود وتاريخ المحرقة .. إلخ، فهذه القضايا من تابوات التفكير هناك، وحوكم بسببها مثقفون وسياسيون وغيرهم. ولا ندري كيف لا يقبل الفرنسيون مجرّد مبدأ الحوار بشأن ما يعتبره المسلمون إساءة لدينهم. ويبدو أن الرئيس الفرنسي، ماكرون، قد أبدى رعونة كبرى عند تطرّقه إلى هذا الموضوع، وهو في كل مرة يسكب مزيدا من النار على لهيبٍ يشتعل.. لا تفتح التصريحات الخرقاء التي أدلى بها أفقا لحوار الحضارات. فرنسا مصرّة على أن لديها درسا هو بمثابة الوصفة تقدّمه للمسلمين.. لا تقبل الحوار، لأنها تعتقد أنها ملهمة الحضارة ومعلمها الأوحد. قليل من التواضع والنسبية من شأنهما أن ينزعا الفتيل، وهو الفتيل الذي يلتف نسيجه أيضا من جهل المسلمين لدينهم وتاريخهم وعالمهم.