فضيلة الصمت
يكون الصمت، في أحيان كثيرة، فضيلة. لكن يبدو أن الشرعية اليمنية لا تعي أهمية ذلك. بالنسبة إليها المعركة مع الحوثيين ومحاولة تسجيل نقاط لصالحها على حسابهم أهم من أي شيءٍ حتى مما يجري في فلسطين، وتحديداً العدوان على قطاع غزّة.
اتّخذت الشرعية، عبر مجلسها القيادي والحكومة، مواقف عدّة منتقدةً عمليات الحوثيين في البحر الأحمر، بل إنها زايدت على الانتقادات الغربية للجماعة. وحتى عندما تعرّضت المدن اليمنية للقصف من أميركا وبريطانيا كانت الشرعية نفسها أول المبادرين للترحيب، وكان ينقص أن تقول "هل من مزيد؟". وتكرّر الأمر نفسه مع تصنيف إدارة جو بايدن الجماعة منظمّة إرهابية، على الرغم من أن الابتزاز الأميركي كان واضحاً أن التصنيف يمكن أن يتغيّر مرة جديدة إذا ما أوقفت الجماعة هجماتها في البحر الأحمر.
ليست مشكلة الشرعية اليمنية في أن لها معركة مع الحوثيين فتلك قائمة منذ سنوات. وهي السنوات نفسها التي كانت كفيلة بإثبات أن هذه الشرعية لا تملك من قرارها أمراً، بل هي مجرّد منفذ للتوجيهات التي تتلقاها، فحتى أعضاء مجلس القيادة عندما أُسقطوا على اليمنيين في مناصبهم الجديدة بالكاد كانوا هم أنفسهم يعرفون أنه سيتم اختيارهم.
وبطبيعة الحال، ليست جماعة الحوثيين الطرف المنزّه في الأزمة اليمنية، فهي سبب خراب البلد منذ انقلابها على السلطة أواخر 2014 واجتياحها المدن اليمنية وإشعالها الحرب وجرّ التدخل الخارجي ولجوئها إلى شتى أنواع الانتهاكات في حربها، بما في ذلك حصار المدن المستمرّ، والقتل... وحتى ارتباطها بإيران وكونها ذراعاً لها ليس خافياً، ولم يكن أحد يحتاج إلى اللحظة الراهنة لإدراكه.
المشكلة أن الشرعية اليمنيّة بينما كان بإمكانها أن تكتفي بالمراقبة والتزام الصمت حتى يتوقّف العدوان على غزة، لأن لا أحدَ كان يتوقع منها أن تؤيد ما يقوم به الحوثيون، إلا أنها اختارت أن تجعل من اللحظة الراهنة فرصةً لإحياء معركتها مع الجماعة بعد قرابة عامين من انتظار مآلات المفاوضات بين السعودية والحوثيين، والتي كانت ستُستَدعى الشرعية للتوقيع على ما يتم التوصل إليه من دون أن تملك حتى ترف الاطّلاع المسبق.
تُخبرنا أميركا وكذلك بريطانيا أن لا شأن للحوثيين بما يجري في غزّة في الوقت الذي تسخِّر فيه إدارة بايدن كل قدراتها، بما في ذلك العسكرية والتجسّسية، لدعم إسرائيل في عدوانها على القطاع، وتدمير آخر ما تبقى فيه. وكذلك تفعل بريطانيا التي ترسل السفن الحربية وطائرات المراقبة على قاعدة أنه يحقّ لداعمي إسرائيل ما لا يحقّ لغيرهم. ربط الحوثيون هجماتهم في البحر الأحمر باستهداف السفن المملوكة أو المتوجّهة إلى إسرائيل، ولاحقاً بعد الضربات أضافوا السفن الأميركية إلى قائمتهم، ورهنوا وقف هذه الهجمات بفكّ الحصار عن غزة، ضمن معادلة الحصار بالحصار، والتي رغم محاولات عدة لتسخيفها أثبتت أنها مكلفة ومؤلمة فالخسائر الاقتصادية جراء تعطل أو تأخر مرور السفن كبيرة جداً.
تتوالى الضربات العسكرية على الجماعة، لكنها حتى اللحظة لا يبدو أنها ستخرُج عن معادلة الضربات الاستباقية لإحباط هجماتٍ أو رد فعل عقب التعرّض لأي سفينة. أما إمكانية تطوّرها إلى حرب واسعة فذلك احتمالٌ مستبعدٌ حالياً على عكس أمنيات الشرعية.
ما لم يتوقّف العدوان قريباً على غزّة لا يبدو أن جبهة البحر الأحمر ستشهد هدوءاً، مع ما يستتبع ذلك حكماً من انعكاسات على الداخل اليمني. المشهد العسكري مرشّحٌ للاشتعال مرة أخرى، لكن حدود ذلك ترتبط بعوامل عدة بما في ذلك الرؤية السعودية للعلاقة مع الحوثيين في المرحلة المقبلة بعد التطوّرات أخيرا. لكن ما يجب ألا تغفله الشرعية اليمنيّة أن أي فتح للجبهات قد لا يُسفر عن النتائج التي تتوقعها لاعتباراتٍ عدّة.