فكرة انتحار الفكرة!
لا تكاد الأفكار تكفّ عن الانهمار من مخابئها السرّية إلى يومياتنا في الكتابة والقول. تنهمر كسيل دافق، ولا نعرف أحيانا كيف نوقفها إن لم نكن مستعدّين لاستقبالها والاستفادة منها في تلك اليوميات. عندما أجلس للكتابة غالبا أحاول استدعاء الأفكار البعيدة، فأجدني غارقةً في السيل، وكلما كتبت ما يعبّر عن ذلك السيل بكلماتي، فوجئت باللغة وهي تتناسل من بعضها بعضا، لأجد ما يناسب أفكاري منها.
من أين إذن تأتي تلك الأفكار؟ وماذا لو أنها أتت ولم نقلها، ولم نستطع أن نكتبها، فذهبت هدرا إلى الفراغ وحده؟ هل تنتحر؟ كأن تعيد إنتاج نفسها بصور جديدة لها؟ تبدو فكرة انتحار الأفكار إن لم تجد من يعبر عنها أو يتبنّاها، غالبا، فكرةً مغريةً لتفسير العدم، باعتباره الصمت والفراغ الخالي من أي تعبير عن المشاعر والأحاسيس والأفكار والآراء. ولا أظنّ أن كاتبا محترفا لم تراود أفكاره فكرة الانتحار، وإن كان ذلك بشكل مؤقت! لكن من الواضح أنها مجرّد فكرة فلسفية تتوسّل اللغة، لكي تبدو بهذه الأناقاة المنطقية. فحتى إن آمنت بفكرة انتحار الأفكار تكون، في الوقت عينه، قاومتها بإنتاج فكرة جديدة، وهي فكرة الانتحار نفسها. الأمر معقد، ولكن الكتابة سهلة. وربما لهذا يكتب معظم الكتاب من دون أن يفكّروا كيف ولماذا، ولم يحاولوا يوما البحث عما وراء كتباتهم، ما داموا باقين على قيد الممارسة الكتابية!
تنتابني مثل هذه الأفكار، كلما انتهيت من قراءة كتابةٍ تتناول موضوع الكتابة، ولا أزعم أنني قرأت الكثير منها، لكنني أجد في تضاعيف السير الذاتية للكتّاب والروائيين والشعراء الكثير من تفاصيل الكتابة كما يراها أصحابها، وماذا تعني لهم. وأحيانا من دون خطةٍ مسبقةٍ أو قصدٍ واضح منهم، فالكاتب، الموهوب تحديدا، لا يستطيع الانفصال الموضوعي عن فكرة الكتابة، وبالتالي، تجده منغمسا فيها، حتى وهي الوسيلة، وتجده متجاوزا إياها حتى وهي الغاية. لكن من الواضح أن الاندياح في عوالمهم يبدو موضوعا مريحا للكتاب عامة. فأنا على سبيل المثال أضع أصابعي على لوحة المفاتيح من دون تخطيط مسبق، عندما أريد الكتابة عن الكتابة نفسها، ويكون قصده وحده هو كل تخطيطي. على العكس من مقالاتي الأخرى التي أستعدّ لها جيدا، ولا أقترب من لحظة كتابتي لها، إلا وأنا متأكدة من أنني في كامل لياقتي الكتابية بمعلومات جاهزة وأفكار محدّدة، وأحيانا حتى الكلمات والعبارات والمصطلحات تكون شبه جاهزة.
وربما من المناسب هنا استعادة ما كتبه الجاحظ على سبيل محاولته تفسير الإبداع الكتابي؛ "الأفكار كالحجارة ملقاة على قارعة الطريق، لكنها بحاجة لمن يلتقطها"، أي لمن يعرف قيمتها، ويحاول التعبير عنها بواسطة الكتابة ليقدّمها الى المتلقّي باعتبارها فكرة جديدة قيمة، رغم أنها قبل أن يعمل إبداعه فيها لم تكن سوى حجارة ملقاة بإهمال عل قارعة الطريق، مرّ بها كثيرون من غير المبدعين، من دون أن يولوها اهتماما.
هل هذا هو الإبداع إذن؟ هل يبدو ذلك تعبيرا مناسبا عما يصعب التعبير عنه في مجال الإبداع؟ هل نضع أيدينا على منبعه الأول، عندما نتوقف عن السير، وننحني لنلتقط حجارةً مهملةً ملقاةً على القارعة، لننفض عنها الغبار ونلمعها بالكلمات؟ نعيد التفكير بها؟ نحاول البحث عن زوايا لم يرها الآخرون فيها؟ نلمعها بفيضٍ من المودّة والحب؟ نسهر الليل نناجي صمتها الغريب؟ نداري خيبتنا بحيل مبتكرة، إن لم نجد فيها ما توقعناه للوهلة الأولى؟ نعيدها للقارعة بحثا عن غيرها، إن لم نستطع فك لغزها بمجرّد الكتابة؟
ربما.. وربما لا.