فلسطين في امتحانات عُمانية
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
ربما لم يُفاجأ الطالب وهو يدخل امتحانات الصفّ الثامن في عُمان بسؤالٍ يتعلّق بحرب الإبادة التي يرتكبها الصهاينة في حق أهلنا في قطاع غزّة، وكان السؤال يتعلّق بالسلام، بمعانيه الواسعة. وقد جاء السؤال على النحو الآتي: "يتّجه بعض المسلمين إلى إقامة العلاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب، سواء كان ذلك بالتطبيع المباشر أو بالاستفادة من خبراته بحجّة تحقيق السلام في أرض فلسطين المُحتلّة وتحرير المُقدّسات". ثمّ تُرِكَت للطالب ثلاثة أسطر فارغة للإجابة بعد عبارة: "وضّح أثر هذا التوجّه في تعامل الكيان الصهيوني مع الفلسطينيين، حسب الواقع المشاهد"، وثمانية أسطر فارغة بعد عبارة: "منطلقاً من مبدأي السلام والتعايش اللذَين درستهما، اكتب ردّاً تُفنّد فيه هذا التوجّه نحو السلام المزعوم". هذا بالنسبة إلى الصفّ الثامن، أمّا الصفّ الخامس فكان السؤال أخفّ وأكثر عمومية: "المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي تُشدّ إليها الرحال، اذكر مكانة المسجد الأقصى في الإسلام".
الحديث عن السلام في ظلّ عنف الإبادة الذي تمارسه إسرائيل، والمنقول بالصوت والصورة، يغدو ساذجاً. لذلك، كان سؤال الامتحان ذكيّاً يُشكر عليه واضعوه في مسايرتهم الحال العام. وإن كانت سهام السؤال يمكنها أن تشير إلى دول عربية ومسلمة مدّت جسور تعاون وتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي قبل 7 أكتوبر (2023). وقد بدأت بعض هذه العلاقات تفتر وتتعرّض لخدوش ومراجعات، فالعلاقات مع إسرائيل بعد "طوفان الأقصى" ليست كما قبله، وإنْ لم تراجع إسرائيل أمر غطرستها، وتعترف بوجود شعبٍ من حقّه أن يعيش في دولة مُستقلّة ذات سيادة، فلن تجد الطرق سالكةً لإعادة صورتها الملمَّعة بشأن السلام. وهي صورةٌ ظلّ كثيرون يُقنعون أنفسَهم بها تحت رغبةٍ ظاهرها التسامح والسلام، قبل أن يُفاجأ العالم، قبل العرب والمسلمين، بالعنف السافر الذي اقترفته دولة الاحتلال ولا تزال، وتلك الأرقام القياسية في التدمير والقتل الذي طاول الأبرياء من نساء وأطفال حُرقوا بعد تجويعهم، ناهيك عن حصارهم السابق الطويل.
يصعب حصر جرائم إسرائيل. وفي المقابل، يصعب، أيضاً، التكهّن بكيفية تعامل العالم معها مستقبلاً، ناهيك عن العرب والمسلمين، شعوباً وحكومات. والآن، كيف يمكننا ذكر كلمة "السلام" (وفي أيّ سياق) في ظلّ هذا التعامل الخبيث؟... في لقائه أخيرا مع قناة فرنسية، وُجّه إلى بنيامين نتنياهو سؤالٌ عن سبب عدم استخدامه الكوماندوز بدل هذا القتل المجّاني للناس، فأجاب المجرم الموصوف بخبث ظاهر: إنّه أخطاء وقعت فيها حتّى فرنسا في أثناء مطاردتها الإرهابيين في مالي.. متناسيّاً أنّه تحدّث عن خطأ واحد حدث في حفل زفاف، بينما الجيش الإسرائيلي يفعل ذلك مرّات عديدة في اليوم الواحد منذ "7 أكتوبر".
"لا يجب أن يكون هناك أيّ نوع من أنواع السلام، مستقبلاً، مع هذا الكيان المُرعب". سأجيب بمثل هذه الإجابة لو كنتُ في مستوى أولئك الطلبة، وربّما ثمّة إجابات أبلغ، وفي عبارات قليلة. في الحقيقة، لديّ اشتياقٌ لمعرفة هذه الإجابات، وجمعها في كرّاس صغير. منذ أيام، كنتُ أسالُ طفلاً نبّهني إلى سلعة عليَ مقاطعتها، "هل إذا انتهت الحرب على غزّة ستنتهي المقاطعة؟"، أجابني، فوراً، بأنّه لا توجد نهاية لهذه المقاطعة: "خليهم يرجعوا الأطفال الّي ماتوا أوّل". وهذه الإجابة الفطرية من طفل يجب أن يفهما حتّى الكبار. كيف يمكن أن يعود كلّ شيء إلى سابق عهده، حتّى وإن توقّف القصف على قطاع غزّة، إذا لم يعد الأطفال والنساء والكهول إلى الحياة؟ نحن، هنا، نتحدّث عن زمن مضارع معاش، لا عن حقب طويلة يمكن فيها ترميم أيّ علاقة من أجل أن يمشي قطار الحياة. القتل اليومي الذي تمارسه إسرائيل لا يجب أن يوازيه سوى ضخامة العداء لها، والقطيعة النهائية. ومن الإبداعات الشعبية التي أصبحت حديث الناس في عُمان، والمتعلّقة بمقاطعة السلع المنضوية في القائمة الداعمة إسرائيل رواج السلع المحلّية، التي كان الناس يتردّدون قبل شرائها فتتكدّس، صارت، الآن، القبلة الأولى للشراء، حتّى إنّي سمعت مرّة في الراديو مُحلّلاً اقتصادياً يتحدّث عن نفاد السلع المحلّية من السوق، من ضمنها صابون محلّي للملابس صار سلعة مرغوبة يمكنها أن تطفئ شيئاً من هذا الغلّ الشعبي المُتنامي ضدّ إسرائيل، وهم يرون جيشها الجبان، بالصوت وبالصورة، يقتل أطفال ونساء وشيوخ أهلنا في غزّة.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية