فلسطين وصحراء المسؤولة الأوروبية
الطبيبة التي صارت وزيرة للدفاع في بلدها، قبل أن تُعطى، بأغلبيةٍ طفيفةٍ، منصبها الراهن، رئيسة المفوّضية الأوروبية، الألمانية أورسولا فون دير لاين، تُهنّئ إسرائيل، بعيد استقلالها، "لمّا تمكّن الشعب اليهودي، أخيراً، من بناء منزلٍ في أرض الميعاد". تحتفل معها بمرور 75 عاما على "الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط". وتقول، في تسجيلٍ مصوّر في "تويتر": "خمسة وسبعون عاماً من الديناميكية والإبداع والابتكار الرائد، لقد جعلتُم الصحراء تتفتّح، كما رأيتُ خلال زيارتي النقب العام الماضي". والبادي في هذه الرطانة أن السيدة تستعير كلاما ذائعا في أدبياتٍ استشراقيةٍ من الصنف الذي نهض على الجهل والتجهيل، وفي خطاباتٍ متوطّنةٍ في الميديا الألمانية، وكثيرٍ من الأوروبية. وحسناً صنعت جامعة الدول العربية والخارجية الفلسطينية ومنظمة التعاون الإسلامي وحركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عندما ردّوا على هذه الدعائية البائسة، غير أنّ ردّاً من لونٍ آخر يحسُن أن تُخاطَب به صاحبة الزّعم الأجوف، الوزيرة الألمانية السابقة، لشؤون الأسرة قبل الدفاع، يطلب منها أن تتثقّف، وتقرأ جيّداً، لتعرفَ ما يلزم أن تعرف عن فلسطين، قبل أن تُشهر جهلها قدّام الناس.
أما وأنّ لغة أورسولا فون دير لاين الأم الألمانية، فإنها مطالَبةٌ بقراءةٍ موسوعة مواطنها غوستاف هيرمان دالمان (1855 – 1941) بمجلّداتها الستة "العمل والعادات في فلسطين" (يُصدِرها بالعربية قريبا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، لتعرف أي غنىً ثقافيٍّ وحضاريٍّ للشعب الفلسطيني صاحب أرض فلسطين التي تفترضها السيدة الأوروبية صحراءَ قبل أن يهبط فيها أصدقاؤها. كتب هذا الباحث المجدّ عن الفلسطينيين وأزيائهم ومأكولاتهم ومزروعات أرضهم وبساتينها وحقولها ومصنوعاتهم، وعن كثير مما لهم ومنهم وفيهم، مرفقا ذلك كله برسوماتٍ توضيحيةٍ مفصّلة. لو طالَعت هذا الكتاب (بالألمانية) لعدَّت إلى المائة قبل أن ترتجل أزعومتها تلك. تماما لو قرأت أيضا كتاب مواطنها، الجغرافي ألكسندر شولش (1943 – 1986) "تحوّلات جذرية في فلسطين 1856 – 1882 .. دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي" (صدر في طبعتين بالعربية، 1988، و1993، عن عمادة البحث العلمي في الجامعة الأردنية، عمّان، ترجمة كامل العسلي)، والذي يقدّم صورةً حيّةً لشعب فلسطين وأرضها في زمن الدراسة، ومن ذلك إيضاحُه تصدير فلسطين كميّاتٍ كبيرةً من الفائض الزراعي إلى الدول المجاورة وأوروبا.
ولأنّ المحتفية بعيد حرّية الإسرائيليين، وهي حرّية الأوروبيين كما تقول، تُتقن الفرنسية، كان في وسعها، لو أرادت أن تعرف أيّ فلسطين كانت (وما زالت) قبل أن يهبط فيها المحتلّون، أن تقرأ ما تحدّث به المؤرّخ والاقتصادي الفرنسي، بول ماسون، إنّ استيراد فرنسا القمح من فلسطين غير مرّةٍ أنقذها من عدّة مجاعات. وعندما تأتي بفرية فلسطين الصحراء التي جعلها الإسرائيليون تتفتّح، فإنها تُذكّر بالفرية نفسها التي جهرت بها أميركية، اسمُها ماكسين دافيز، ذكرت في برنامج في إذاعةٍ أميركيةٍ شعبية، عن رحلة ذويها إلى الأراضي المقدّسة (في الأربعينيات غالباً)، وشاهدوا "إسرائيل حين كانت لا تزال صحراء". وهنا، كان طيّبا من الناقد صبحي حديدي أنه نقل إلى قرّائه مقاطع وافيةً من رسالة الأب سيمون حرّاق إلى تلك الإذاعة، يردّ فيها على تلك السيدة، صالحةً تماماً لأن تكون ردّاً على رئيسة المفوّضية الأوروبية.
من كثيرٍ مهمٍّ جاءت عليه الرسالة الثمينة أن البريطاني لورانس أوليفانت (كان متحمّسا لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين)، كتب من أجواء رحلته في 1887 إنه لما أطلّ على أحد وديان فلسطين أبصرَ "بحيرةً هائلة خضراء من سنابل الحبوب المتموّجة، وروابي متوّجة بالقرى تنهض من قلبها كالجزر، وصورة مذهلة عن خصوبة عامرة". وكتب أنّ القنصل الأميركي في القدس، هنري غيلمان، اقترح في 1865 استفادة مزارعي الحمضيات في فلوريدا من التقنيّات الفلسطينية في التطعيم. كما وصف المبعوث البريطاني الساحل الجنوبي من فلسطين، في 1859، بأنّه "محيط عبابٍ من الحبوب".
رسالة الأب حرّاق ثريةٌ بأرقام مزروعات فلسطين من الزيتون والحمضيات في غير عامٍ. لو يُرسل أمين عام جامعة الدول العربية نصّها، وهي مكتوبةٌ بالإنكليزية، إلى السيدة أورسولا التي تعرف الإنكليزية، فسيكون أجدى من الإدانة التي وزّعها على الصحافة، وأنفع للطبيبة الألمانية السابقة لتشخيص حالتها جاهلةً بما تقول.