فلنحبس الشعب المصري
ليس مستبعداً أن يكون الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قد ردّد عبارة "أيها الشعب لا يليق بك إلا الحبس" في أوساط دائرته، عقب صدور نسب المشاركة في انتخابات مجلس الشيوخ التي لم تتجاوز 14%، ثم وجد من يقترح عليه تنفيذ الفكرة، قبل أن يذكّره أحدهم بنص المادة الـ57 من قانون مباشرة الحقوق السياسية، ويوعز إلى مجلس إدارة الهيئة الوطنية للانتخابات بإحالة من تخلفوا عن التصويت على النيابة العامة، لاتخاذ تدبير عقابي بحقهم. لم يجد المصريون سوى السخرية من قرارٍ كهذا، ومن بيان الهيئة التي خرجت تعاتبهم على عدم المشاركة في الانتخابات، على الرغم من أنها "أمنت" لهم ما يحتاجون إليه من كمّامات ومعقّمات لتفادي الإصابة بفيروس كورونا، وكأن سبب الامتناع يرتبط بالفيروس، لا بالوضع السياسي.
صحيحٌ أن عقوبة عدم التصويت ستكون مالية، وقد لا تُنفَّذ، لكن دلالاتها تكفي. اختار النظام تحويل الشعب (أكثر من 50 مليون مصري) إلى النيابة، سلاح البطش الأول والأكثر فتكاً بيده. يحضر أمامها يومياً عشرات المعتقلين الذين تفيض بهم السجون، فتعمد إلى تجديد حبسهم دورياً كل 15 يوماً، حتى لو امتد الأمر سنوات، بلا أي سبب، إلا لإرضاء السيسي ورغبته في الانتقام من الشعب.
يعيش السيسي في فقاعة من الأوهام، وحالة من الإنكار، تجعلانه يرفض تصديق أن المواطن المصري غارق في يأسه، وإن لم يعبّر مباشرة وصراحة عن خيبة أمله وامتعاضه من وضعه المعيشي والاجتماعي المتردّي، بسبب حجم البطش الذي يمارسه النظام، فإنه أثبت ذلك أكثر من مرة بطرق مختلفة. لكن ذلك كله غير مهم بالنسبة إلى السيسي الذي يحاول أن يقول للمصريين إن أمامهم خيار وحيد: أنا أوجّه الأوامر وأنتم تطيعون، عندما أطلب منكم المشاركة في الانتخابات، يجب أن تنتخبوا، وإلا فالعقاب آتٍ، حتى لو كان سيطاول أكثر من 50 مليون مواطن.
يرفض السيسي الاعتراف بأن للمواطنين الحق في قول كلمة لا، في التصويت أو الامتناع عنه. بالنسبة إليه، الانتخابات بالعافية. يهوى هذا الرئيس ومن حوله مصادرة الحقوق، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية. لا يمرّ يوم من دون أن تعلن إحدى الوزارات فرض ضرائب أو رسوم جديدة أو تعديلات في أسعار الخدمات الأساسية من كهرباء وتذاكر المترو. دائماً في جعبة السيسي تبريرات عنوانها "كل ذلك لمصلحتهم"، التي يعرفها أكثر من المواطنين، حتى إنه يرهن مصير بلد بحجم مصر ومكانتها وقدراتها به. الأهم من ذلك كله، أن السيسي يعيش هاجس حجم التأييد الشعبي له ولنظام "3 يوليو" (2013). يدرك جيداً أن كل الترهيب الذي تفرضه أجهزته غير قادر على تحسين شرعيته الشعبية. مارس السيسي على مدى سبع سنوات كل أساليب الترويع، خنق الحياة السياسية، زجّ في السجون معظم الناشطين السياسيين، ولم يتردّد في حبس حتى من كانوا يوماً في صفّه، لمجرد أنه استشعر تحولاً في مواقفهم. ليس هناك ما يمكن أن يفسّر هذا السلوك سوى أن قائد الانقلاب يخشى الشعب والثورة التي يرى فيها عدوه الأول، لأنها عندما اندلعت قبل نحو عشر سنوات كانت المُعَبّر الحقيقي عن إرادة المصريين، قبل أن يصادرها، ويمعن بالتنكيل بهم والتفريط بحقوقهم. باع جزيرتي تيران وصنافير، فشِل في أزمة سد النهضة، رهَن القرار الخارجي المصري لمصالح دول إقليمية أخرى مقابل المال، لا على قاعدة تبادل المصالح. يريد السيسي التمادي في العبث بمصر، لكنه يرفض الاعتراف بأن لكل ما جرى تبعات.