فليكُنْ متحف لذكرى شهداء محرقة غزّة
كان بليغاً وموفّقاً من الناحية الصحافية عنوان الصفحة الأولى من "العربي الجديد" (الثلاثاء 24 ̸ 10 ̸ 2023) "ليسوا أرقاماً"، متوسّطاً صور مئات الأطفال من شهداء غزّة الذين تجاوز عددهم حتى الساعة خمسة آلاف طفل. وتصلح هذه الفكرة المجلّية مهنيّاً لأن تُلهم جهات معنيّة وقادرة، في أيّ مكان من عالمنا العربيّ، ولِمَ لا تكون قطر مثلاً، إنشاء متحفٍ لذكرى شهداء محرقة غزّة 2023، يضمّ بالصور والأسماء والأعمار والسيرة جميع الشهداء أطفالاً ونساءً وشيوخاً، على غرار متحف هؤلاء "المتظلّمين الأبديين" من المحرقة النازية لليهود، ومتحف ضحايا هيروشيما وناغازاكي، ومتاحف أخرى لضحايا المجازر والحروب وأعمال الإبادة التي يرتكبها تاريخيّاً أوحش الكائنات المدعو إنساناً.
يجب أن نتجاوز جميعاً، إعلاماً وصحافيين ومجتمعاتٍ عربية، لغة الأرقام إلى الهويّات والصور والسِيَر الفرديّة للشهداء، وأن نخلّد ذكراهم ونصونُها على وجه الدقّة والتحديد والتعيين، فرداً فرداً، حفظاً لكرامتهم وقيمتهم الإنسانيّة، وتخطّياً "عدّاد" الأرقام المهين، فهم حقّاً ليسوا أرقاماً. ومن المشين أن نستمرّ في إحصاء الشهداء على مدار الأيام والساعات بالأرقام. لا إهانة أفظع من تحويل الإنسان إلى مجرّد رقم، ونحن غافلون عن مثل هذه الإهانة. كان متوجّباً على وسائل الإعلام أن تورد في أعقاب كل غارة مجرمة أسماء ضحاياها الشهداء والجرحى، وتلافي "الترقيم" (20 شهيداً، 30، 40 ! ...). كلٌّ من شهداء محرقة غزّة، التي فاقت الحدّ والخيال والقدرة على الاحتمال، يستحقّ، طفلاً كان أو أباً أو امرأة أو عجوزاً، ذكر هوّيته بالاسم، وإن اقتضى ذلك بعض التأخير لصعوبة التعرّف الفوريّ إلى هويات الشهداء.
يُمعن الصهيونيّ النازيّ في وحشيته ويتعامل مع الشعب الفلسطينيّ وسائر شعوب المنطقة من منظور "الحيونة" لكينونتها الإنسانيّة، ولا يبالي بحياتنا أفراداً وجماعات، بمنطق "الأرقام" عينه (أي: قتلنا اليوم مائة أو مائتين أو خمسمائة من مدنّيي غزّة). هذا تصرّف إجراميّ متوحّش معهود منه ولا عجب. لكن هل نبخّس نحن بدورنا قيمة بشرنا، أفراداً ومجموعات، فنشغّل على شاشاتنا وفي صحفنا ومواقعنا الإلكترونية ووكالاتنا الإخباريّة عدّاد الضحايا، مساهمين، من حيث لا نتيقّظ ولا نعي، في تثبيت نظرة العدوّ التحقيريّة إلينا بشراً كاملي الحقوق والكرامة والقيمة الإنسانيّة!
غزّة البطلة الأبيّة عسكرياً، المنكوبة مدنيّاً، لا تعدو كونها معتقلاً في الهواء الطلق يفوق مساحةً معتقل أوشفيتز ومختلف المعتقلات النازية
دأب الصهاينة على البكاء والنواح على ضحايا "الهولوكوست" و"الشوا" (المحرقة النازية لليهود)، وأصمّوا آذان العالم بنحيبهم وتسويقهم حتى الساعة لصورة "الضحية الممتازة" لـ"عرقهم المتفوّق"، وفي ذلك بعض الحقيقة وليس كلّها. ومهما يكن، ماذا يفعل أحفاد تلك المحرقة النازية في معتقل أوشفيتز سوى تقليد النازيين في معتقل غزّة اليوم؟ هل تبقى الضحيةُ ضحيةً عندما تتحوّل جلّاداً، وحين يسقط قناعها ليكشف عن حقيقة الوجه الدمويّ وعن أنياب مصّاصي دماء لا يرتوون ولا يتوقّفون ولا يُلجمون؟
الحاجة طارئة وملحّة اليوم إلى الشروع في إنشاء متحف لشهداء محرقة غزّة التي من غير الجائز، منذ اليوم الأول، تسميتها "حرباً" أو "عدواناً" (هذه المفردة القاصرة والمهينة التي ينبغي حذفها من الخطاب العربي اليومي في الإعلام والتحليل والخبر العاجل)، فما يحصل محرقة بكلّ معنى الكلمة، ولا وصف صحيحاً إلّاها، وغزّة البطلة الأبيّة عسكرياً، المنكوبة مدنيّاً، لا تعدو كونها معتقلاً في الهواء الطلق يفوق مساحةً معتقل أوشفيتز ومختلف المعتقلات النازية.