فلّوجة التونسية

يتساءل التونسيون، وتحديدا الشباب منهم، عن اسم فلوجة، وهم يتابعون مسلسلا في موسم رمضان الحالي يحمل هذا الاسم، تبثه قناة تلفزيونية خاصة مباشرة بعيد أذان الإفطار. وكالعادة، تثير الأعمال الدرامية التونسية كل سنة سيلا من الانتقادات، تدور عموما حول ثالوث العنف وخدش الحياء وتزوير التاريخ. وبقطع النظر عن دقّة هذه التحفّظات أو عمقها ومشروعيتها، غدت "فلوجة" هذه الشغل الشاغل للرأي العام التونسي أخيرا، حتى أن بعضهم ذهب إلى اعتبار أن ما يجري  تحويل وجهة الرأي العام، لينشغل بقضايا ثانوية يتم افتعالها، والبلد يقف على حافّة انهيار اقتصادي واجتماعي، فالجدل يحتدّ حول مسائل خلافية وثانوية، فيما يحلّ رمضان وعشرات المناضلين الحقوقيين والسياسيين توصد عليهم أبواب السجن، عقابا لهم على مقاومة الانقلاب مقاومة مدنية وسلمية تنصّ عليها قوانين البلاد.
لا يعرف من ولدوا بعد الثورة تحديدا  فلوجة، المدينة العراقية (محافظة الأنبار) التي ظلت وشما بارزا في تاريخ العراق، حين تصدّت للمحتل الأميركي، وقدّمت له درسا قاسيا، ظلت بلاغته تلهم عديدين من أحرار العالم، وقد خاضت ضده معارك ضارية امتدّت أكثر من خمس سنوات تقريبا. جرت الرياح بما لا تشتهي السفن لاحقا، وطمس نضال هذه المدينة، ولم تعد الذاكرة الجماعية للعراقيين تحتفي بها. لقد صيغ لاحقا تاريخٌ طائفيٌّ محا من الذاكرة بطولة هذه المدينة وتصدّيها البطولي للجيش الأميركي وشركة بلاك ووتر وغيرها من المرتزقة.  كما أنهم  لا يعرفون أن فلوجة لفظ عربي قحّ يفيد الأرض المصلحة للزرع، وأن في فلسطين أيضا مدينة تسمّى الفالوجة قرب غزة.

يخشى فنانون تونسيون عودة الرقابة التي اختفت على المصنّفات الفنية بعد الثورة

يثير مسلسل فلوجة لغطا وصخبا حادّين، وأول مواضيع الجدل سرّ التسمية، فلا شيء يوحي ظاهريا أن لأحداث المسلسل والحبكة والدرامية والزمان والمكان فيه علاقة بالفلوجة، فوقائعه في مجملها تجري في معهد في ضاحية رادس في جنوب العاصمة. وتدور عموما حول قضايا إدمان التلاميذ الفتيان. إذ تدل إحصائياتٌ عديدة تصدر عن وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية أن نسبة مهمة من تلاميذ المدارس التونسية تستهلك المخدّرات. كما أبانت قضايا هزّت الرأي العام الوطني أن الوسط المدرسي غدا سوقا لترويج المخدّرات في مناخ من العنف وانهيار العلاقات بين التلاميذ والمدرّسين عموما.
أصدرت عدة نقابات للمدرسين تابعة للاتحاد العام التونسي للشغل بيانات استنكار مندّدة بالمسلسل، وتطالب بمحاسبة الوزير السابق الذي منح رخصة لتصوير معظم مشاهد المسلسل في معهد عمومي. كما أن مدرّسين عديدين من المعهد قد نشروا تدوينات شخصية على صفحاتهم فيها تفاصيل كثيرة جرت في أثناء تصوير المسلسل، ويرصد فيها هؤلاء المربّون مختلف أشكال التجاوزات التي حدثت، وقد وافقتهم نقابتهم الفرعية في كل ما أوردوه.
وتباينت ردود أفعال الفنانين الذين ذهبوا في مجملهم الى مساندة العمل، خشية إباحة التدخل السياسي والأخلاقي وعودة الرقابة التي اختفت على المصنّفات الفنية بعد الثورة، فلقد نص دستور 2014 على هذا الأمر، ولم يعد بالإمكان التدخّل إلا لسلطة القضاء التي يُحتكم إليها، وهي سلطة عادة محكومة بمبدأ الحرية، وتحديدا حرية التفكير والإبداع.

جيل متمرّد على كل أشكال الهيمنة، لعل أهمها هيمنتا الأب والمدرّس

يخشى التونسيون أن تكون هذه بدايات التحرّش بحرية التفكير والابداع في بلد تضيق فيه الحرّيات تدريجيا، خصوصا بعد السيطرة على التلفزة العمومية ومنع المعارضين من المرور في برامجها، وهي تجاوزات طاولت المدونين والصحافيين وغيرهم. غير أن طيفا آخر من المشاهدين، وحتى النقاد، يجدون في مسلسل فلوجة إساءة بالغة للمدرسين وحرمة المدرسة، فضلا عن التطبيع مع الإدمان وتشريعه، من خلال الدفاع الضمني عنه، فالتناول السطحي والصياغة الدرامية يجيزان للتلاميذ أن ينبهروا بهؤلاء الأبطال الذين احتفى بهم المسلسل، وهؤلاء تلاميذ  منغمسون في تناول المخدرات، متباهين بها باعتبارها قيمةً تبرهن على حريتهم وفطنتهم وقدراتهم.
يجري هذا الجدل الحاد في وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي التي انقسمت إلى مخيمين متصارعين، فيما ظلّ السؤال عن سر التسمية وعلاقة الفلوجة بالمسلسل التونسي المثير للجدل. وإحدى الفرضيات القوية التي تجيز هذه التسمية لمسلسلٍ تونسي لا شيء في أحداثه يوحي بمقاومة المحتل أن الجيل الحالي الذي يؤم المدرسة قد اتخذ من هذا الفضاء فضاء لمقاومة النزعة الأبوية وكل أشكال التربية الفوقية الصارمة. إنه جيل متمرّد على كل أشكال الهيمنة، لعل أهمها هيمنتا الأب والمدرّس. يدرك التلاميذ أن  "السيستم"  الاجتماعي  الذي يحتكمون إليه يبدأ تحديدا من المدرسة، ولذلك تم اتخاذها متراسا للتمرّد، إنها الفلوجة يا أصدقائي.
تتعزّز هذه الفرضية، وقد أطلق الناس خلال العشرية الفارطة اسم المدينة العراقية المقاومة على أحياء شعبية عديدة خاضت احتجاجات شرسة مع أجهزة الأمن في أثناء أحداث الثورة أو بعدها. إنها روح التمرد والممانعة، لكن المقارنة قد تبدو تجنيّا على فلوجة العراق.