في أبعاد الصراع حول "الحديد والصلب المصرية"
يتجاوز الصراع الجاري حاليا في مصر بشأن قرار تصفية شركة الحديد والصلب في حلوان، الصادر 11 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) مربع الاقتصاد والاقتصاديين إلى كامل رقعة شطرنج تتداخل فيها عوامل وقوى مجتمعية وسياسية واعتبارات الأمن القومي والتحالفات الإقليمية والدولية للحكم. كما يستدعي بقوة سياقات تربط لحظة الحاضر بالماضي والمستقبل، فقد انطلق قطار الخصخصة وتدمير الصناعة المصرية المملوكة للدولة بحلول عام 1992 في عهد حسني مبارك. وراحت ضحيته مئات الشركات، ومعها قطاع من الطبقة العاملة المصرية، يقدر بمئات آلاف أحيلوا في الأغلب إلى المعاش (التقاعد) المبكر والبطالة، أو إلى الاقتصاد الهامشي الأسود غير الرسمي. ولم تستثن هذه الخصخصة صناعات استراتيجية كـ "المراجل البخارية" في عام 1994، وهي التي كان في وسعها المساهمة في حل أزمة الكهرباء بدون اللجوء إلى صفقات بلا شفافية مع شركة سيمنس الألمانية وشراء الغاز الفلسطيني المسروق الحرام من تل أبيب في عهد عبد الفتاح السيسي. ولقد بدا أن ثورة يناير أوقفت موجة جديدة من الخصخصة، وتدمير الصناعة الوطنية في مصر. بل بفضلها، وفي سياقها، توالت أحكام تاريخية للقضاء الإداري، اعتبارا من 7 مايو/ أيار 2011، ببطلان صفقات بيع شركات وفسادها وبإلزام الحكومة بإعادتها إلى المال العام، وعمّالها إلى الشغل. وجاءت الأحكام نهائية وباتة بخصوص سبع شركات كبرى على الأقل، من بينها "المراجل"، وذلك قبل أن تعود عقارب الساعة مجددا إلى ما قبل الثورة.
ومنحت فسحة الهوامش الديمقراطية التي تفتحت نسبيا، بعد إجبار مبارك على التنحّي في 11 فبراير/ شباط 2011، فرصا للعمال ومناصريهم من أجل حضور وحركية أكثر تأثيرا على مصير شركات المال العام، سواء عبر الاعتصامات وتشكيل النقابات المستقلة أو مخاطبة الرأي العام، وأيضا من خلال منابر مملوكة للدولة. وحتى في عام 2014، أصدر قاض محترم تصدّى للحكم بعودة بعض هذه الشركات، هو المستشار حمدي ياسين عكاشة، نائب رئيس مجلس الدولة حينها، كتابا من 1449 صفحة بمثابة "سِفر" في إدانة فساد الخصخصة وبالوثائق. ووصفها في أحكامه وكتابه بأنها "أكبرعملية تجريف ونهب لاقتصاد مصر". وكشف، بالأدلة الدامغة والوثائق الرسمية، دور الإدارات الأميركية وصندوق النقد والبنك الدوليين في فساد الخصخصة. كما نشر ترجمة كاملة رسمية لنص اتفاقية منحة الخصخصة بين الحكومتين، المصرية والأميركية، عام 1993، وتسمح بنودها بالتمويل الأجنبي للقرارات المصرية في بيع شركات القطاع العام وبرشوة القائمين على بيع الشركات من أموال المنح والهبات المشروطة الماسّة بالسيادة الوطنية.
بحلول نهاية العام الماضي 2020، يتضح أن مصر على أعتاب موجة جديدة من الخصخصة تضرب، إلى جانب "الحديد والصلب" الاستراتيجية، صناعات السماد والمزيد غيرها
ولكن وإلى يومنا هذا عادت فقط ثلاث شركات إلى المال العام وإلى العمل بنصف طاقتها أو أقل (طنطا للكتان وعمر أفندي وغزل شبين)، مع استمرار حرمانها من ضخ الأموال لتشغيلها كاملا وتنفيذ خطط تطويرها. وهذا مع أن الأموال الممنوعة عن هذه الشركات لا تقارن بمئات المليارات المهدرة بلا شفافية أو رقابة على طرق وكباري (جسور) مشكوك في جدوى العديد منها، فضلا عن عاصمة إدارية مع قطار كهربائي يربطها بالمنتجعات السياحية للطبقة الجديدة والأثرياء من حلفائها الإقليميين على البحرين، الأبيض والأحمر. وعلى سبيل المثال، تحتاج "طنطا للكتان" إلى أقل من مائة مليون جنيها مصريا فقط.
وقد اتضح أن الحكومات التي توالت بعد ثورة يناير كافة، بما في ذلك حكومة الرئيس محمد مرسي برئاسة هشام قنديل، لم تفتقد فقط الإرادة السياسية لتنفيذ أحكام القضاء بعودة الشركات، بل شاركت أيضا المستثمرين الأجانب الطعن على أحكام القضاء، كما يفيد كتاب المستشار عكاشة. ناهيك عن الامتناع عن محاكمة خمسين مسؤولا، يتقدّمهم مبارك في فساد الخصخصة، حدّدهم الكتاب ذاته بأسمائهم وفق الأحكام النهائية. والأنكى، وكما يقول عمال هذه المصانع، استمرار وتصعيد المسؤولين في الشركات المباعة، المدانين قضائيا بالتورّط في فساد الخصخصة ليتولوا، بعد الثورة مناصب قيادية حاكمة على رأس الشركات القابضة التي تتبعها هذه الشركات، وبعضهم تجاوز الستين.
بحلول نهاية العام الماضي 2020، يتضح أن مصر على أعتاب موجة جديدة من الخصخصة تضرب، إلى جانب "الحديد والصلب" الاستراتيجية، صناعات السماد والمزيد غيرها من غزل القطن ونسجه. وكأنه حان الوقت للانتقال إلى هجوم جديد أعمق على مقدّرات الاقتصاد الوطني مع بيع أصول وأراضٍ أخرى. وتتزامن هذه الموجة الهجومية الجديدة مع ارتفاعٍ غير مسبوق للدين الخارجي والتعطش لاقتراض خارجي جديد مع القبول بشروط أكثر قسوةً من الدائنين الأجانب (123 مليار دولار وفق بيان لوزارة التعاون الدولي أمام لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب 3 فبراير/ شباط الجاري، وبعدما كان نحو 45 مليارا في 2014). ولكن من الخطأ الزعم أنها موجة تحت ضغط الاضطرار ليس إلا، فعناصر الإرادة السياسية لتصفية "الحديد والصلب" وغيرها، والتعمد مع سبق الإصرار والترصد، متوفرة وواضحة.
تكتسب "الحديد والصلب المصرية" رمزية بعمق 67 عاما من تاريخ مواطني البلاد، وسعيهم إلى الانتقال من مجتمع زراعي بالأساس واقتصاد ريعي إلى بناء قاعدة لصناعة وطنية
ويكفي أن تستمع إلى أعضاء من مجلس إدارة "الحديد والصلب المصرية" ونقابييها ومهندسيها وعمالها، وتطلع على ما يقدمونه من وثائق، لتتيقن بتوفر وواقعية خطط إنقاذ الشركة وتطويرها، ومعها عروض روسية وأوكرانية وأيضا محلية. كما يكفي مراجعة مسلسل بيع المقدّرات العامة ومخططاته خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك جزيرتا تيران وصنافير (2016)، وبالمخالفة للدستور والقضاء. وقبل كل هذا النيات التي كشفت عنها صياغة دستوري 2012 (المادة 22) و2014 (المادة 34)، بعد بدء توالي أحكام القضاء الإداري بعودة الشركات من فساد الخصخصة، كي يجري إسقاط كلمة "المواطن" من واجب وحق حماية الملكية العامة، ووصولا إلى إصدار القانون رقم 32 لسنة 2014 المعروف إعلاميا بـ"حماية الفساد"، والذي يمنع أيا كان خارج طرفي التعاقد من الطعن على عقود البيع والاستثمار التي تبرمها الدولة مع أي جهةٍ أو مستثمر، بما فيها قرارات تخصيص العقارات. وبالتالي، يتسبب في إهدار حق المواطنين عامة، والعمال خاصة، في كشف شبهات الفساد بتلك العقود، والتي أضحت محصنة بسبب هذا القانون.
تكتسب "الحديد والصلب المصرية"، الشركة العملاقة الرائدة في الشرق الأوسط، رمزية بعمق 67 عاما من تاريخ مواطني البلاد، وسعيهم إلى الانتقال من مجتمع زراعي بالأساس واقتصاد ريعي إلى بناء قاعدة لصناعة وطنية. باعت أمهاتنا وجدّاتنا في خمسينيات القرن الماضي ما يمتلكنه من ذهب الأعراس (المصوغات) لشراء أسهم تأسيس الشركة، واجتهد عمّال مصانع الشركة أمام الأفران 24 ساعة من أجل إنتاج نحو مائة طن لإقامة حائط الصواريخ حماية لعمق الوطن من غارات الطائرات الإسرائيلية خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر. وكانوا في طليعة الحركة الوطنية والديمقراطية في مواجهة بطش السلطة منذ 1968 وحتى قمع مبارك اعتصامهم الشهير صيف 1989 بالمدرّعات والرصاص، مرورا بمشاركتهم الرائدة في الانتفاضة الشعبية في يناير/ كانون الأول 1977، وتصدّيهم المبكر للتطبيع، برفض ومنع زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحق نافون، عام 1980، وفي ظل جبروت السادات وبطشه، معزّزا بدعم أميركي غير محدود بعد اقترافه "كامب ديفيد".
تتعلق المعركة حول مصير الشركة ومستقبلها أيضا بنتائج الصراع المجتمعي السياسي إزاء إطلاق الموجة الجديدة من الخصخصة وتصفية الصناعات
يواصل عمّال الشركة العتيدة اعتصاما داخلها بدأوه في 17 الشهر الماضي، رفضا للتصفية ولمغريات بتعويضات مالية مجزية مقابل إحالتهم إلى المعاش المبكر. وهذا بعدما تقلص عددهم من نحو 27 ألفا إلى 7300 بفعل سياسة خنق "حديد وصلب حلوان"، بوقف أي تطوير أو صيانة جديين منذ عقود (آخر فرن أقيم عام 1979)، وبالرفع الجنوني التعجيزي لأسعار الكهرباء والغاز وفحم الكوك اعتبارا من 2015. وهذا مع أن مصانع الشركة تقدم 32 منتجا متفرّدا، يقوم عليها تشغيل صناعات مهمة عديدة أخرى. وبالطبع، تتعلق المعركة حول مصير هذه الشركة ومستقبلها أيضا بنتائج الصراع المجتمعي السياسي إزاء إطلاق الموجة الجديدة من الخصخصة وتصفية الصناعات، والتي تجري في سياق أكثر صعوبة من ذي قبل، نظرا إلى تقلص هامش الحرّيات العامة.
ولقد توالت المؤشرات على ذلك في الأيام القليلة الماضية، حيث جرى قطع الطريق على استجوابين في البرلمان بشأن تصفية شركة الحديد والصلب، كما يعاني اعتصام عمالها والتضامن معه محليا وعالميا من حصار في وسائل الإعلام التقليدية. وحتى التحرّك إلى المحاكم برفع عمال من الشركة دعوى أمام القضاء الإداري، وترقب دعوى أخرى من المواطنين ورثة حملة الأسهم، يخشى أن يلقى مصيرا بائسا مماثلا لأحكام عودة الشركات العامة ومصرية جزيرتي تيران وصنافير. وبالأصل، ظل هذا المنجز الصناعي الوطني الاستراتيجي المحسوب للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومنذ إنشائه، ضحية الطبيعة الاستبدادية لنظامه، فحيل بين العمال وتكوين النقابات القوية المستقلة، وغيّب حملة الأسهم من أبناء الشعب عن ممارسة حقوق الإدارة والرقابة بحق، وسقطت مصانع الحديد والصلب في قبضة بيروقراطية رأسمالية دولةٍ فاسدةٍ وغير ذات كفاءة إلا من رحم ربي، ناهيك عن تواطؤات ترجّح كفة وربح مصانع صلب لرجال أعمال تجاوز عددها الثلاثين. وفي هذا السياق، أصبحت الحكومة تستحوذ على أكثر من 80% من الأسهم والجمعية العمومية، والتي يترأسها وفق تسلسل سلطوي هرمي (وبمقتضى القانون) رئيس شركة قابضة، وبدوره يترأسه، و"القابضة"، وزير قطاع أعمال عام، ينفذ بالأصل قرارات رئيس الدولة وتوجيهاته.
ومع هذا كله، تستحق المعركة من أجل الحديد والصلب أن تخاض. ولا مفرّ منها مهما كانت النتائج.