في اختلاف الاحتجاجات الإيرانية عن سابقاتها
تتميز الاحتجاجات الإيرانية، على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني، في أنها تختلف عما سبقها من احتجاجات، ليس فقط من حيث أن نساءً يقدنها، أو من حيث اتساع نطاقها، وسرعة مشاركة قطاعات واسعة من الإيرانيين فيها، وانتشارها في غالبية المدن الكبيرة والصغيرة، بل من حيث أنها اندلعت لأسباب اجتماعية، ثم التقت فيها القضايا الاجتماعية مع السياسية والاقتصادية، بينما شهدت إيران في 1988 احتجاجات واسعة اعتراضاً على التعديلات الدستورية، وفي 1999 انطلقت احتجاجاتٌ كبيرةٌ قادتها الحركة الطلابية، ثم جاءت "الثورة الخضراء" عام 2009 على ما اعتُبر تزويراً لنتائج الانتخابات الرئاسية، التي فاز فيها أحمدي نجاد بولاية ثانية، في حين أن أسباب احتجاجات عامي 2017 و2019 تمحورت حول قضايا اقتصادية ومعيشية، وقادها مسحوقون وفقراء. أما الاحتجاجات الحالية، التي دخلت أسبوعها الرابع، فهي الأوسع انتشاراً، وقادتها نساء ضد فرض الحجاب القسري، ثم التفّت حولها معظم الفئات الاجتماعية الإيرانية، تعبيراً عن غضب واسع ضد النظام الذي ينظر إلى المسّ بنمط الحجاب الذي يفرضه على النساء انتهاكاً صارخاً لأشدّ رموزه الأيديولوجية، وذلك لأن الحجاب لم يعد رمزاً دينياً فقط بالنسبة إليه، إنما تحوّل إلى رمز سياسي هام، ويافطة لا يستطيع التخلي عنها أبداً.
وإذا كانت الاحتجاجات الحالية قد اتسمت بمشاركة أعداد كبيرة من الشابات والشبان فيها، حيث تصدّرت الشابّات صفوفها الأولى، فذلك لأن فئات الشباب هي الأكثر استعداداً من جهة الدوافع والمصالح للذهاب بعيداً في الحراك الاحتجاجي، وخصوصاً أن أكثر من نصف سكان إيران تحت الثلاثين، فيما النساء 63% من طلبة الجامعات، إضافة إلى الجيل الشاب الذي بات على درايةٍ بما يحصل في العالم الخارجي، بواسطة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومطّلع على تقدّم المجتمعات على مختلف الأصعدة، الاجتماعية والاقتصادية والفنية والحياتية، ولم يعد مقتنعاً بأوضاع مجتمعه المتردّية، وبالممارسات التي تريد إعادته إلى الوراء.
تصدّر النساء المشهد الاحتجاجي يقدّم دليلاً جديداً على أن القضية النسوية تحتل موقعاً مركزياً في الاعتراض على النظام
ويمكن القول إن الاحتجاجات الحالية تختلف عن سابقاتها في الأسباب والقضايا التي أدّت إلى اندلاعها وفي سماتها أيضاً، ولعل الأهم أنها لم تقتصر على فئة معينة أو إثنية محدّدة، على الرغم من أن مهسا أميني من أصول كردية، فالجانب الاجتماعي المحرّك لها، والذي استدعى تضامناً واسعاً في داخل إيران وخارجها، أساسه التطلّع والتوق إلى نيل الحرية، إلى جانب رفض القهر والتمييز ضد المرأة، حيث ارتبط الإجحاف بحقها بقضية تدخل السلطات الثيوقراطية في المسائل الحياتية للإيرانيات، التي تخصّ الحريات الفردية والخيارات والسلوكيات الشخصية، فضلاً عن التمييز القانوني حيالهن في شؤون الحياة. لذلك، شكّلت النساء محرّكاً للاحتجاجات ودافعاً لها، ورفعن شعار "المرأة، الحياة، الحرية"، بوصفه المؤسّس للاحتجاجات، مع استعادة شعار "الموت لخامنئي... الموت للديكتاتور"، تأكيداً على الارتباط بين السياسي والاجتماعي، وعلى أن المعركة التي تخوضها المرأة ضد الحجاب القسري لا تنفصل عن التي يخوضها المجتمع لنيل الحرية والعيش الكريم. وبالتالي فإن خلع الإيرانيات الحجاب المفروض عليهن أو حرقه خلال الاحتجاجات جاء تعبيراً عن تمرّد عارم على سلطة النظام، وعن رفض منظومته الأيديولوجية. ولذلك واجهها بعنف مفرط، لأنه اعتبر أنها طاولت أمراً لا يمكن التسامح أو التساهل معه.
وسطّرت الإيرانيات سابقة في الاحتجاجات الحالية، تبدّت في ظاهرة قص شعورهن، تعبيراً عن استعدادهن للتخلي عن شيءٍ عزيز لديهن من أجل نيل حريتهن، وعن استعدادهن لدفع ثمن توقهن إلى الحرية مهما كان، الأمر الذي يشي بأن الحرية هي المحرّك الأساس لخلاص الأفراد من القهر، مثلما هي محرّك الشعوب على مرّ التاريخ. كما أن خروج المرأة بدون حجاب إلى الشوارع والساحات العامة يرمز إلى الرغبة في كسر طوق الهيمنة التي نسجتها سلطات النظام، وعلى السعي إلى تحطيم شبكات التحكّم والسيطرة على أجساد البشر، التي تسعى الأنظمة الشمولية والثيوقراطية إلى فرضها عليهم.
الاحتجاجات تختلف عن سابقاتها في القضايا التي أدّت إلى اندلاعها وفي سماتها
ولعل تصدّر النساء المشهد الاحتجاجي يقدّم دليلاً جديداً على أن القضية النسوية تحتل موقعاً مركزياً في الاعتراض على النظام، ويستدعي إدراج قضايا النساء في مركزية العمل السياسي، بوصفها محرّكاً هاماً يضاف إلى العوامل والدوافع الأخرى للوقوف في وجه سياسات الأنظمة الشمولية وممارساتها، الإيراني خصوصا، كما يستدعي من القوى السياسية المعارضة إعادة النظر في مواقفها وأجنداتها السياسية، فالنساء أصبحن صانعات حراك احتجاجي جديد في البلاد.
وبالنظر إلى ما تميزت به الاحتجاجات الحالية، كان التضامن العالمي واسعاً معها، وخصوصا من ناشطين ومثقفين وفنانين ورياضيين، ومنظمات المجتمع المدني، ليس لأن حركة الاحتجاج ضد ارتداء الحجاب، أو ضد الحجاب الإسلامي، إنما ضد فرضه على النساء، أي هو تضامن مع الحرية بمعناها الواسع، أي حرية الإنسان في أن يقرّر تدبير شؤون حياته الشخصية في المأكل والملبس والنوم، من دون أي رقيب من أي نوع كان.
ويُظهر ما يجري في إيران مدى احتقان كتلة شعبية كبيرة، مأزومة وقلقة، ويعبر عن احتجاج ورفض من شرائح واسعة من الإيرانيين. ولعل التكهنات بأن مآل الحركة الاحتجاجية لن يختلف عما سبقه من حركات في سنوات سابقة لا تمتلك أهلية أو وجاهة، إذ من الصعب الركون إليها، بالنظر إلى أن المستقبل يبقى على الدوام مفتوحاً على شتى الاحتمالات والآفاق، إضافة إلى أن منطق المقايسة الذي تعتمده ليس صالحاً لكل مكان وزمان، ومن المهم أخذ الاختلافات والتباينات، واستخلاص العبر والدروس للمضي، والتعويل على إشراقة شمس الحرية.