في العراق .. سقوط شعار "إيران أولاً"
أبرز ما يلفت نظر المرء، حين يستقرئ الأوضاع السياسية في العراق بعد الغزو الأميركي للبلاد والتوغل الإيراني فيها، بالأخص في السنوات العشر الأخيرة، تماهي رجال الطبقة الحاكمة المطلق مع نظام "ولاية الفقيه" في إيران، والتسابق بينهم على خدمته. ولا يحتاج المرء لجهد كثير كي يكتشف أنّ شعارهم العملي المضمر هو "إيران أولاً" لكنّهم يمارسون "التقية" في إخفائه لغايات معروفة، إذ يزعمون حرصهم على العراق ودفاعهم عنه، وليس في هذه اللفتة الصادمة ضربٌ من التوهم أو المغالاة، فكلّ شيء في بلاد الرافدين يوحي بأنّ بغداد تُحكم من طهران، فقد كانت لرجل إيران القوي الذي اغتاله الأميركيون، قاسم سليماني، سلطة الأمر والنهي في الشؤون العراقية، بتفويض من المرشد الأعلى علي خامنئي. وكان في زياراته المتعاقبة إلى بغداد واجتماعاته بالمسؤولين العراقيين يستفسر ويوجّه، ويأمر أيضاً، واعتاد زعماء الأحزاب الشيعية القيام بزياراتٍ، بعضها معلوم وبعضها الآخر مستتر، إلى طهران أو إلى قم، يسمعون ما يُملى عليهم مقابل إطلاق أياديهم في التحكّم بأبناء بلدهم واستباحة المال العام ونهبه، وحتى زعماء من السنة كانوا يذهبون إلى هناك طلباً للدعم، فلا تبخل عليهم طهران بشيء، ما داموا يمحضونها الولاء وهم صاغرون!
في ظلّ تلك الأوضاع الشاذّة، أصبح العراق، بمدنه ومياهه وثرواته، ونستطيع أن نقول بناسه أيضاً، في قبضة إيران، وفي خدمة مخططاتها ومشاريعها في المنطقة والعالم. ولم يكن المسؤولون الإيرانيون ينفون هذا الواقع، بل كانوا يفاخرون به، وقد تبجّحوا مرّاتٍ أنّ بغداد أصبحت إحدى عواصم إمبراطوريتهم، إذ أنشأوا فيها وفي المدن الأخرى مليشيات، وأقاموا مؤسسات ترتبط مباشرة بهم، وعملوا على إجراء تغييرات ديموغرافية واجتماعية، وشرعنوا "دولة عميقة" تحقّق لهم ما يريدونه، وتحوّل العراق، جرّاء ذلك، إلى ما يشبه ولاية إيرانية منها إلى دولةٍ تمتلك قراراً مستقلاً وسيادة نافذة، لكنّ الطبقة الحاكمة بدت متجاهلةً ما يحدث، وفي أكثر الحالات راضية ومتواطئة.
يرى بعضهم أن مقتدى الصدر نفسه، قد لا يمكنه التخلّص من القبضة الإيرانية لأكثر من سبب
وبمرور الزمن، شعر العراقيون أنّ بلدهم قد اغتُصب، وأن لا بد من وقفة جريئة يستعيدون من خلالها وطنهم. وهكذا بدأت الانتفاضة المطلبية وحركة الاحتجاجات التي انتقلت من مدينة إلى أخرى، وتحولت إلى ثورة عارمة تريد استعادة الوطن من غاصبيه، وتصاعدت أصوات الثوار أن "إيران برّه برّه". عندها أدركت طهران أنّها أصبحت في قلب العاصفة، وأنّ مشروعها الطائفي العرقي قد يتعرّض لشرخ كبير، إذا ما فلت العراق من قبضة يدها، وشرعت تستنفر مليشياتها ووكلاءها، وتسعى لأن تجعل منهم مركز قوة وتأثير عبر استخدام سلاح التهديد والتغييب والاغتيال من جهة، والاندساس داخل تجمّعات الشباب الناشطين، لحرف حراكهم والسعي إلى خطفه من أيديهم.
لكنّ جديد هذه الأيام ينبئنا بأنّ حصيلة الانتخابات البرلمانية لم تكن كما أرادها المعسكر الإيراني، إذ إنّها أعطت الأرجحية للتيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر الذي حاول أن ينأى بنفسه عن التركيبة الحاكمة، وأن يلتقط الخيط بذكاءٍ يُحسب له، ليدعو إلى "حكومة أغلبية وطنية، لا شرقية ولا غربية". ولاقى هذا الشعار الذي يعني السعي إلى الإفلات من قبضة إيران هوى حتى لدى الذين كانوا، إلى حد قريب، يخاصمون "التيار الصدري"، مع أنهم ما زالوا يجدون في تقلبات الصدر وتراجعاته في السابق ما يجدّد مخاوفهم من أن الصدر نفسه قد لا يمكنه التخلّص من القبضة الإيرانية لأكثر من سبب.
فشل خليفة قاسم سليماني في العراق، قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، في تحقيق اختراق في علاقة الصدر بزعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، التي يشوبها التوتر
وجديد هذه الأيام ينبئنا أيضاً بأنّ خليفة سليماني في العراق، قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، فشل في تحقيق اختراق في علاقة الصدر بزعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، التي يشوبها التوتر منذ قاد الأخير، في ولايته الأولى لرئاسته الحكومة، "صولته" الجهادية ضد أتباع الصدر بهدف اقصائهم عن الساحة السياسية وتفرّده بالدعم الإيراني له ولحزبه. كما لم تنفع وساطة قاآني في توحيد "البيت الشيعي" الذي يتنازعه في الخلفية انقسامٌ بين التيار الولائي والتيار المساند لمرجعية علي السيستاني، وبلوغ هذا الانقسام حدّه، في ضوء ما تردّد عن مرض السيستاني، وتقدّمه في السن (92 عاماً)، وسعي قم إلى تنصيب شخصية ولائية خلفاً له، الأمر الذي لا يحظى بمباركة مراجع الشيعة العرب.
وفي خضم كلّ هذه المقاربات والمفارقات، يبدو شعار "إيران أولاً" المضمر في نفوس حكام بغداد قد فقد سحره، وقد لا يمرّ زمن طويل قبل أن يسقط ويتلاشى غير مأسوف عليه!