في القاعدة الدستورية الليبية
قَدَّمت اللجنة القانونية لملتقى الحوار السياسي الليبي مُقترحاً لقاعدة دستورية، تُنظَّم وتُجْرى على أثرها الانتخابات والحياة السياسية في البلاد، وتنطلق هذه القاعدة من تعديل الإعلان الدستوري الذي هو بمثابة وثيقة دستورية، تسير عليها البلاد بعد نجاح ثورة فبراير في 2011، وجاءت أولى المواد في هذه القاعدة تنص على: "تأجيل طرح مشروع الدستور للاستفتاء إلى ما بعد تشكيل السلطة التشريعية الجديدة المنتخبة طبقا للقاعدة الدستورية، وتلزم هذه السلطة باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لاستكمال الاستفتاء على المشروع، وذلك قبل انتهاء ولايتها"، غير أن المجلس الأعلى استبق ذلك بإقرار قانون الاستفتاء على الدستور المحال إليه من مجلس النواب، وطلب المفوضية العليا للانتخابات بوضعه موضع التنفيذ، الأمر الذي يتراءى للجميع بأن هناك تباينا في الآراء في آلية سير المرحلة المقبلة من عمر البلاد، بين تأجيل الاستفتاء على الدستور وأن يكون الدستور هو بداية المرحلة المقبلة وأساس تكوينها وإنشائها، باعتبار أنه يؤسّس لمرحلة دائمة بخلاف الحلول الأخرى الجانبية التي تؤسّس لمرحلة أو مراحل انتقالية أخرى قد تدخل البلاد في دواماتٍ سياسيةٍ أكثر حدّة مما كان في السابق من عمر الثورة الليبية.
من المتناقضات جعل اليد الطولى للبرلمان المؤقت الجديد للنظر في الدستور أو الاستفتاء عليه، والذي يخوض فيه المجتمع والمجالس التشريعة المتعاقبة منذ عشر سنوات
واحتوت القاعدة الدستورية المقترحة على ثلاثة أبواب، واحد للسلطة التشريعة، وآخر للسلطة التنفيذية، وثالث للأحكام العامة. وخصص الباب الأخير لاستكمال المسار الدستوري بعد الانتخابات التشريعية، غير أن اللافت للنظر في هذه القاعدة تحديدها مدة ولاية المجلس الجديد بأربع سنوات، حيث جاء نص في القاعدة: "تبدأ ولاية مجلس النواب الجديد من تاريخ أول اجتماع له، وتنتهي بمضي أربع سنوات ميلادية أو بانتخاب السلطة التشريعية طبقا للدستور الدائم أيهما أقرب. ويتعين على المجلس ضمان إنجاز الدستور الدائم في أجل أقصاه ستة أشهر قبل انتهاء ولايته. وفي حالة عدم إنجاز الدستور في الأجل المحدد تتم الدعوة إلى انتخابات تشريعية في أجل لا يتجاوز مائة وعشرين يوما قبل انتهاء ولاية مجلس النواب وذلك على أساس هذه القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية التي صدرت بناء عليها. لا يجوز تعديل هذه المادة".
ولدى الوقوف عند هذا النص قراءة، تُلاحظ عدّة ملاحظات بشأنه، يجب أن تكون واضحة لكل متابع، لعلّ أبرزها المدة الطويلة لسلطة تشريعية مؤقتة، بُنيت وأسِّست على أساس من الحوار والتوافق في أحسن أحوالها، ولم تكن نابعةً من القاعدة الشعبية للمجتمع. وبالتالي، فإن المدّة الزمنية له يجب أن تكون أقصر من ذلك بكثير، وإلا كان السير نحو مرحلة دائمة أولى وأجدر. كما أن هذا النص يحمل في طياته ضِمنياً: أن مشروع الدستور ربما لن يكون هو الخيار الذي تتبنّاه القاعدة الدستورية في الوقت الراهن، باعتبار أن النص فضفاض، ولا يحمل الإلزام على إيجاد الدستور أو الاستفتاء عليه، والذي يجب أن يكون هو موطن الإلزام في هذه القاعدة الدستورية على أقل تقدير، في أقرب الآجال وليس أبعدها. كما أن من المتناقضات جعل اليد الطولى للبرلمان المؤقت الجديد للنظر في الدستور أو الاستفتاء عليه، والذي يخوض فيه المجتمع والمجالس التشريعة المتعاقبة منذ عشر سنوات، لتكون النتيجة بعد ذلك العودة إلى المربع الأول بطريقةٍ أو أخرى!
الدولة غير مستقرّة أولاً، ولم تَعبر بعد إلى مرحلة دائمة، بل إنها تدور في المراحل الانتقالية، والتي غالباً ما يَشُوبها التغْيِّر والاختلاف، وحتى الصراع
وثَمّة اختلاف كبير ليس بين أعضاء اللجنة القانونية فحسب، بل بين فئات الشعب ككل، بين اختيار رئيس الدولة مباشرة من الشعب واختيار السلطة التشريعة الجديدة المؤقتة له، وهذا اختلاف وإشكال جدّ خطير، باعتبار أن الدولة غير مستقرّة أولاً، ولم تَعبر بعد إلى مرحلة دائمة، بل إنها تدور في المراحل الانتقالية، والتي غالباً ما يَشُوبها التغْيِّر والاختلاف، وحتى الصراع. وبالتالي، فإن تقديم أحد الخيارين على الآخر يحتاج بُعد نظر، ورؤية شاملة، خصوصا أن هذه القاعدة الدستورية، إن أجيزت، فإنها تتحدت عن ولاية انتخابة كاملة بأربع سنوات، وكأن الدولة في مرحلة استقرار، أو أنها تسير على دستور دائم. وبالتالي، فإن تخطّي هذه القاعدة الدستورية ممن يصل إلى السلطة وارد، بل وبكل قوة، إذا لم تؤخذ بالاعتبار الإجراءات والطرق الرادعة، خصوصا أن هناك من يدفع الثورات المضادّة إلى الإمام، والعودة إلى حكم العسكر.
وجاء أيضا في الباب الرابع في مسار استكمال المسار الدستوري نصاً: "على مجلس النواب المنتخب خلال أجل لا يتجاوز سنتين من تاريخ انعقاد أول جلسة له أن يشكّل لجنة فنية يراعى في تكوينها تمثيل المكونات الثقافية، وتتولى هذه اللجنة التنسيق مع الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور لإيجاد حلولٍ ملزمة بشأن الاعتراضات المتعلقة بالمشروع". وقد أثار هذا النص حفيظة لجنة صياغة الدستور، غير أنه بعيدا عن هذه التحفظات، فإن إيجاد لجنةٍ جديدةٍ لتقييم مشروع دستور منجز فيه شيء من العبث، خصوصا أن هذا الدستور لم يُستفتَ عليه بالقبول أو الرفض. وبالتالي، فإن هذا الإجراء، وغيره من الإجراءات الأخرى، فيها شيء من التناقض، خصوصا في ولاية البرلمان التي حدّدت بأربع سنوات، في حين أن المرحلة المؤقتة لا تحتاج لذلك، إن أريد العبور بالبلاد إلى مرحلة دائمة على أساس من الدستور والقانون.