في انتظار "إصلاحيّة" بزشكيان
كان طارق عزيز يسخَر من التصنيف الذائع لأهل السياسة في إيران، محافظين متشدّدين وإصلاحيين معتدلين. وكان يقول إنه تَحاور بشأن بلده مع مسؤولين إيرانيين من النوعيْن، ولم يلحظ فرقاً بينهما. ... وفي أيّ حال، لسنا مُلزمين بالتسليم بما كان يراه الوزير العراقي الراحل، فمن ألف باء السياسة أن تشتغل على الفروق والشقوق بين هذا وذاك، وبين هذه وتلك. كما أن محمود أحمدي نجاد ليس مثل محمد خاتمي الذي يذكّرنا به وزير الصحّة في خمسٍ من سنوات حكمه، جرّاح القلب، مسعود بزشكيان (70عاماً) الذي صار الرئيس التاسع لإيران، في انتخاباتٍ تغلّب فيها على أربعة مرشّحين نافسَهم، وُصفوا محافظين، فيما وحده إصلاحيٌّ في المبارزة الانتخابية التي حسمتها جولةٌ ثانية، كان لافتاً ارتفاع نسبة التصويت فيها، وبمشاركةٍ أعرض من الشباب الإيراني، وقد أبعَدت الأولى من بين ثلاثةٍ أبعدتهم رئيس البرلمان، رئيس الشرطة السابق، الأصولي المحافظ، محمد باقر قاليباف، الذي روّجت "سيناريوهات" منجّمين في صحافاتٍ غير قليلة أنه الرئيس الذي سيرث سلفه الراحل إبراهيم رئيسي. ولكن بزشكيان هو الذي أحرز الرئاسة، فيما سؤالٌ، مسوّغٌ، عن السبب الذي أتاح لمجلس صيانة الدستور ترشّحه، بعد أن كان قد رفض هذا في رئاسيّات 2021. وقد قال إن هذا المجلس رفض ترشّحه في انتخابات البرلمان في مارس/ آذار الماضي، لعدم أهليّته لخوضِها، بدعوى "عدم التزامه العملي بنظام الحكم"، غير أن المرشد خامنئي تدخّل، وأوصى بالمصادقة على أهليّته. وقد يَعتدُّ بهذا المعطى من صاروا يقولون إن ثمّة إرادةً في أحشاء الدولة الإيرانية نحو "نجاح" رئيسٍ إصلاحيٍّ، يكون وجهاً ناعماً للنظام أمام الغرب، يُساهم في دفع التوجّه إلى إعادة الاتفاق النووي الذي عطّله ترامب، الرئيس المرجّحة عودتُه إلى البيت الأبيض، والذي يلزم أن يكون في مُقابِله في طهران رئيسٌ بوداعة مسعود بزشكيان، إصلاحيٌّ يعارض فرض الحجاب على الإيرانيات، ويقول بمقادير من الحرّيات السياسية.
لا يدري صاحبُ هذا التعليق ما إذا جرت هندسةٌ لانتخابات الرئاسة الإيرانية على نحوٍ سمح بعبور النطّاسي بزشكيان إلى قصر الرئاسة، وإنْ لا يميلُ إلى هذا الافتراض. سيصيرُ هذا تفصيلاً، فالأدْعى أن يُكترَث بالخيارات التي سيمضي فيها الرجل، ودائماً تحت سقوف النظام، في السياسة الخارجية، طالما أنها التي تعنينا، نحن العرب، وطالما أن من غير المناسب دسّ أنوفنا فيما لا يعنينا، من قبيل الاحتجاجات الشعبية في الداخل الإيراني التي لا تنفكّ تعثُر على مسبّباتٍ لها تستجدّ وتطرأ، وليس مرجّحاً أن تتوقف نوباتُها إذا لم ينجح فريق الرئيس الجديد في حلّ استعصاءاتٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ ضاغطة، غير أننا هنا نلتقط ما كان قد قاله الرئيس الجديد، في حملته الانتخابية، إن إصلاح الاقتصاد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة الخارجية، غير أنه حدّد حديثه هذا بشأن العلاقة مع الغرب بشأن البرنامج النووي.
أن يفتتح بزشكيان تصريحاته، رئيساً، بالقول إنه يمدّ يد الصداقة إلى الجميع (في بلادِه كما يُفهم)، فهذا كلام كلاسيكي، تشابهه أقوالُه في حملته عن مدّ اليد نفسها إلى الجميع في الخارج (باستثناء إسرائيل). يهمّنا، نحن العرب، في هذا كله، موقعنا بين الجميع، وأيُّ كيفيةٍ ستكون عليها "التسويات" التي سيهتدي بها بشأن ملفّات الخارج. ولا نملك غير انتظار "إصلاحيّة" رئيس دولة الجوار الإقليمي الكبرى، أن تكون ذات مصداقية عالية. ولكن أرشيف أسلافه الإصلاحيين (يُحسب بينهم رفسنجاني!) لا يزوّدنا بمقادير وازنةٍ من الاطمئنان، تجعلنا نتوقّع انعطافة في المنظور الإيراني إلى غير بلدٍ عربي، وتعييناً إلى الهدية الثمينة بعد احتلاله، العراق، إلى اليمن الممسوك بالحوثيين، إلى سورية التي لا تهاون أبداً بشأن بقاء نظام الأسد فيها، إلى لبنان المرتهن لإرادة حزب الله. لا سيّما أن المصالحة مع الرياض في بكين لم تنفع بشأن الملاعب الإيرانية في هذه البلدان.
تقوى إيران أكثر وأكثر بتمايزات نخبتها السياسية الحاكمة بين معتدلين فيها ومتشدّدين، بين محافظين وإصلاحيين، لا سيّما أنهم جميعاً يختلفون ويتفقون ويلتقون، ويتنافسون في انتخاباتٍ برلمانيةٍ ورئاسية، تحت سقف أيديولوجيا عقائدية، تصون الدولة، وتحت سقف إرث الخميني... ولهذا كله، وغيرِه، نُصادف تبايناتٍ في معالجات أولئك وهؤلاء الشأن المحلي (الحجاب وغيره)، غير أنهم، في زمن ما بعد طارق عزيز، كما هم في ذلك الزمن، بخصوص العراق وغيره، ما يجعل انتظارَنا "إصلاحيّة" بزشكيان بشأننا نافلاً.