في انتظار عصا الراعي بايدن
هي حقيقة، كثير من العرب يجمعهم رئيس أميركي ويفرّقهم آخر، والشواهد هنا كثيرة. يعلن البيت الأبيض أن جو بايدن سيزور منطقة الشرق الأوسط، منتصف الشهر المقبل (يوليو/ تموز)، فتبدأ الجولات الديبلوماسية المكوكية تمهيداً لاستقباله وتلبية قائمة أوامره مقدّماً. وقبلها، عام 2017، تقاطر قادة وممثلون عن 55 دولة عربية وإسلامية إلى الرياض، للترحيب بالزعيم الأميركي حينئذ، دونالد ترامب، وتقديم فروض الطاعة له. بعد ذلك، حوصرت قطر من أشقاء عرب بمباركة منه، وما أن خسر الانتخابات، وقبل أقل من ثلاثة أسابيع على تنصيب بايدن رئيساً، مطلع عام 2021، أًعْلِنَ عن رفع الحصار، ذلك أن السيد الجديد أوضح، مرشّحاً، أنه يعارضه.
اليوم، يجيء بايدن طامعاً بـ"الكرم" العربي الأصيل، علّه يحصل على مزيد من براميل النفط الخليجية لتعويض الروسي منه المفروض عليه وعلى غازه عقوبات غربية بسبب غزو أوكرانيا، ما دفع أسعار الطاقة عالمياً إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. أيضاً، وهذا الأهم، أن بايدن يحلّ ضيفاً ثقيلاً (في ميزاننا نحن الشعوب، لا الأنظمة) وفي جعبته مخطّطات للدفع بمشروع تطبيع إسرائيل عربياً في المنطقة، وجعلها مركزاً لها لتطويق إيران واحتوائها. وهو لن يفاجأ بأن المضيفين قد بلغ "كرمهم" حدَّ أن كانوا قد لبّوا رغباته، حتى قبل وصوله إلى الرئاسة. ولأن "إكرام" الضيف الأميركي واجبٌ في أعرافهم فهم سيعطونه المزيد من دون سقوف ولا حدود. أما السيادة والكرامة والمصالح القومية العربية فمصطلحات في قاموس "بخلاء" العرب، وحاشا لهم أن يكونوا منهم!
لن تجلب زيارة بايدن إلى المنطقة خيراً أبداً، إنما مزيداً من التحريش بين أبنائها وأهلها
كثير من سياسات إيران وأفعالها في المنطقة قبيحة ومجرمة بحقنا نحن العرب. المشكلة أن من يتحالفون مع إسرائيل ضدها لا يقلون إجراماً عنها في حقنا، وفي الوقت نفسه، هم عاجزون عن تطوير مشروع ذاتيٍّ للتصدّي لها. كان الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، أدرك هذه الحقيقة، ولم يخجل من رميها في وجوههم في مقابلته الشهيرة مع مجلة أتلانتيك الأميركية، عام 2016. "لا يملك شركاؤنا الخليجيون، أصدقاؤنا التقليديون، القدرة على إطفاء النيران بأنفسهم أو الفوز بشكل حاسم (في صراعهم مع إيران)، وهذا يعني أن علينا التدخل واستخدام قوتنا العسكرية لتصفية الحسابات. ولن يكون ذلك في مصلحة الولايات المتحدة ولا الشرق الأوسط". وأوباما هنا محقّ، فكيف يقدر على منافسة إيران من جعلوا أولوياتهم سحق شعوبهم، وتدمير بلادهم، ورهن سيادتها، بل واستهداف القادرين على التصدّي لعدوانها ووكلائها في المنطقة وإضعافهم وتركهم نهباً لها أو عرضة لابتزازها؟
ثالثة الأثافي أن تكون إسرائيل، ذلك الخنجر الذي غرس في الخاصرة العربية بتخطيط إمبرياليٍّ ماكر لإبقائها مقسّمة مشتتة، هي الحل والحليف في مقاربة تلك الأنظمة. لا يهم هؤلاء ما يختزنه الضمير والوعي العربيان من بغض وكراهة للكيان الصهيوني وجرائمه بحقنا، بوصفنا أمة، وبالتالي، هم يعزّزون مكانة إيران فيهما، أو يربكانهما عند محاولة الحكم عليها. كما أنهم لا يأبهون لحقيقة أن الدولة العبرية لن تقبل بسقوط قطرة دم واحدة من جنديٍّ من جنودها من أجلهم. دماء أبناء إسرائيل في عقيدة قادتها هي من أجل دولتهم ومن أجل مصالحها فقط، وليت بعض وُلاتنا يكونون مثلهم، ولكنهم جعلوا من دمائنا قرابين يقدّمونها لمن يرون فيهم أسياداً، وبهذا يكون عبيد الأسياد يضحّون بعبيد العبيد. يدرك الأميركيون بشكل عميق كيف تفكّر بعض الأنظمة العربية، ومن ثمَّ فهم لا يتردّدون في إهانتهم أكثر فأكثر، إذ إن ثمن الضغط على إسرائيل عندما تتحدّى السيد الأميركي فادح سياسياً في واشنطن، أما تطويع كثير من قادة العرب فهو بسهولة تشكيل العجينة.
عالمنا العربي مخترق، وجسُده بالٍ ومنهك، ينتشر فيه العفن، وهو مليء بالثقوب
لن تجلب زيارة بايدن إلى المنطقة خيراً أبداً، إنما مزيداً من التحريش بين أبنائها وأهلها، في حين تتنعّم إسرائيل في جناننا، وتتفيأ ظلالنا، وترقب بؤسنا وبأسنا الشديد بيننا. وإذا أردت دلائل على ما قد تعدّه مرسلاً من القول، فأحيلك إلى بعض البيانات العربية التي صدرت في اليومين الماضيين عن قمم ثنائية عربية - عربية تتحدّث عن إيران بنبرة عداء، في حين تتحدّث عن الكيان الصهيوني بنبرة فيها تودّد وتطلع إلى "السلام" معه. لا يهم هنا أن إدارة بايدن أعلنتها بالفم الملآن ألا يتوقع أحد منه شيئاً ذا معنى يقدّمه للفلسطينيين خلال زيارته، في حين تتفاخر بأنه سيعبر ويعزّز من دعم بلاده "أمن" إسرائيل، فضلاً عن دفع عجلة التطبيع العربي معها قدماً. ليس هذا فحسب، بل نعلم الآن أن بعض الدول العربية، من بينها الإمارات والبحرين، سمحت لإسرائيل بنشر أنظمة رادارات فيها بذريعة مكافحة "التهديدات الإيرانية"، وهم الآن في طوْر وضع اللمسات الأخيرة على معاهدة دفاع مشتركة مع الولايات المتحدة، تكون إسرائيل قطب رحاها.
النتيجة، عالمنا العربي مخترق، وجسُده بالٍ ومنهك، ينتشر فيه العفن، وهو مليء بالثقوب، ومن ثمَّ فلا تعجب إن غرقت سفينته في ظلمات بحرٍ لُّجِّيٍّ، ذلك "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (يونس: 44).