في بلد الزوابع .. عبّاس النوري أمام "المحلّفين"
تعوّدنا في سورية أن تندلع زوبعة كلّ حين، بشأن رأيٍ يعدّه قسم من السوريين، خارج السرب أو خارج النسق أو يحيد عن الصراط، أو قد لا يعجب طرفًا من دون آخر، ومن جديد هذا زوبعة حديث قاله الفنان السوري، عبّاس النوري، مع إذاعة "المدينة F M"، والذي حُذف، تاليا، من موقعها، ثم أعلن قائله إنه لم يكن يقصد شيئا، في ما يشبه التراجع عما قاله.
من يتابع صفحات التواصل الاجتماعي التي هي بمثابة الفضاء الأكثر تعبيرًا عن الواقع الفعلي، على الرغم من واقعها الافتراضي، يخلص إلى نتيجة محبطة إلى حدّْ بعيد، بما تعطيه من دليل دامغ على أن 11 سنة من النزيف السوري على كل الأصعدة، من دمار البلاد ونزيف طاقاتها ومواردها، من الشبابية إلى ما هو تحت تربتها، لم تغيّر شيئًا يمكن التأسيس عليه في الوعي الجمعي، وفي الوجدان الجمعي أيضًا، فما زالت هناك مسافة كبيرة بين الواقع والتأسيس لحاضنة شعبية تتمثّل القيم والأهداف التي تطمح الشعوب إليها، من أجل صناعة غدها ومستقبل بلادها. ولهذا أسبابه ومبرّراته المؤلمة في عديدٍ منها.
تُدار المعارك الحامية، وكلّما بهتت الحجّة، أو عدمت، يلجأ المتحاورون إلى الشتيمة والسباب بأقذع الألفاظ، وبعبارات وألفاظ تنتهك الأمهات والأخوات والبنات، بإلصاق تهمة الخيانة للطرف المختلف، انطلاقًا من الحق الحصري بالوطنية والوطن من كل طرفٍ تجاه الآخر. العنف بتجلّيه الصارخ بوصفه حقا شرعيا في الدفاع عن الوجود، المهدّد باستمرار من الآخر الذي هو عدوّي، ومنافسي على الحيازة، هو ما يزدهر.
مسافة كبيرة بين الواقع والتأسيس لحاضنة شعبية تتمثّل القيم والأهداف التي تطمح الشعوب إليها، من أجل صناعة غدها ومستقبل بلادها
انتقد الفنان عبّاس النوري، في حديثه هذا، الوضع السوري الراهن، حاول تسليط الضوء على العوامل الضالعة بشكل أساسي فيما وصلت إليه البلاد. قال "الحريات في سورية أجهضت منذ وصول العسكر إلى الحكم"، وأن الدول العربية، بما فيها دول الخليج، تمتلك حريّات أكثر من سورية التي كانت بلد الديمقراطيات بانتخاباتها وأحزابها، خصوصًا في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، إلى أن جاء حكم العسكر وأطاح الديمقراطية والدستور والثقافة، على ما استرسل الرجل. وأضاف "لم يعد هناك أي دور للمواطنين، بل اقتصر الدور كله على الحكومة، حتى إن الدولة يمكن أن تحذف اسم شاعر من الوجود لمجرّد اختلافها معه بالرأي". وفي إشارته إلى الفساد قال: "في ناس أخدت معها كل ما في البنك المركزي ومشيت، والعالم ساكتة، علمًا أنو عندنا محامين ورجال قانون، وما حدّ استرجى يرفع دعوى". ودافع عباس النوري عن الشعب السوري تجاه تهمة أنه غير جاهز للديمقراطية، قائلًا "جرّبوه"، في غمز لناحية الانتخابات الخلّبية التي تجرى في سورية. واعتبر أن الدولة هي المسؤولة وليس المواطن، "المواطن صرلو من 1963 عميسمع سمع بس". كما استغرب شعار تحرير القدس، بينما المواطن يلهث خلف رغيف الخبز، في وقتٍ "يتجاوز دخل الفرد الفلسطيني، وليس في إسرائيل، عشرة أضعاف دخل السوري".
هذه هي السقوف التي وصل إليها، فانهالت التعليقات والتنمّر الذي يجيده معظم الشعب، تجاه بعضه بعضًا، بل هناك أخبار تقول إن القضاء يتحرّك لرفع دعاوى، من متنفذين أو محسوبين على النظام، ضدّه. ومن المعارك في الواقعة، على إحدى الصفحات العامة في فيسبوك، متعلّقة بمنشور يقول: "وصّلت معك للجيش يا أبو عصام؟ هي كبيرة عليك كتير، جيشنا خط أحمر يا (فنّان)"، وأبو عصام هي الشخصية التي اشتهر بها في مسلسل باب الحارة. علمًا أن الرجل لم يتطاول على الجيش في حديثه، بل أشار إلى ظواهر موجودة تجذّرت منذ هزيمة الديمقراطية الناشئة بوصول العسكر إلى السلطة. ولو تتبعنا التعليقات على المنشور، الذي فاق عدد متابعيه الألفين، ما يمكن اعتباره عينّة استقصائية، ورصدنا التي حازت على مئات من "سمايلات" الانفعالات المؤيدة لها، لوجدناها وفق هذه النماذج: أحدهم علّق: كالعادة، بوست لمّ للعالم وجس نبض شو في جوّات هالشعب المعتّر من حكي. آخر قال: (شو منشان: ماذا بشأن) إسرائيل تعدّت الخط الأحمر؟ شو منشان روسيا للخط الأحمر؟ شو منشان إيران ما شافت الخط الأحمر؟
انتقد عباس النوري الوضع السوري الراهن، حاول تسليط الضوء على العوامل الضالعة بشكل أساسي في ما وصلت إليه سورية
وفي تعليق آخر: ولقمة العيش والكهربا والمي والخبز وكرامتك والدوا .. هدول مو خط أحمر؟ أمّا أحد العسكريين فقد قال: أنا كعسكري، وبظن الكل نفس الإحساس (يلّي: الذي) عم نحسّو وعايشينو، مانّا (لسنا) خط أحمر، وبعمرنا ما كنّا خط أحمر. كل تعليق من هذه التعليقات عبارة عن صرخة ألم تنحر صدور غالبية السوريين، ومع هذا فإن القليل القليل منهم يتجرّأ على الصراخ. أحدهم قال، وفي قوله كثير من الدلالة: لازم "أبو عصام" يقاضيكم إلكترونيًا ودستوريًّا، بالدستور حرية الرأي حق، وبالقانون الإلكتروني التشهير جريمة يعاقب عليها.
يفتح قانون الجرائم الإلكترونية الذي صدر أخيرا الباب واسعًا على تأويل كل حرف ينطقه المواطن المسحوق، ويحيله إلى القضاء بتهمة التشهير بموظف حكومي، أو إضعاف العزيمة. أمّا من يتنمّر على شخص ينتقد ويقول كلمة حق، فإنه يملك ترف أن يكون في مأمنٍ من المحاسبة والعقاب، ليس فقط بالاتكاء على القضاء "النزيه والمستقل"، بل بالاتكاء على من هم متغلغلون بين شرائح الشعب، يمارسون التنمّر والاعتداء على الناس، بحجّة حماية الوطن والوطنية، ويمارسون العنف بأعتى درجاته.
ثمة أسئلة، لو طرحناها على عينات عشوائية من الشارع السوري، ماذا سيكون الرد عليها؟ وهل يغيّر ذلك من القناعات والاصطفافات؟ من قبيل: إلى أي حدٍّ يمكن للشعب أن يمارس الرقابة على أداء الحكومة وقراراتها؟ ماذا يتوفر من الشفافية المطلوبة من الحكومات التحلّي بها وإطلاع الشعب على عملها وكيفية اتخاذ القرارات؟ وكم يتوفر للشعب، على الأقل عن طريق ممثليه، فرصة التشارك والتواصل مع أصحاب القرار؟ ماذا عن سلطة القضاء، وحيويته في التحديث، ومدى استقلاليته؟ ما مدى توفّر الأمن في مقابل انحدار مستوى حماية الحقوق، بل انعدامها تقريبًا؟ هل هناك فساد في أجهزة الدولة؟ والسؤال الأهم: هل أنت راضٍ عن عيشك في هذا البلد؟ أخمّن أن الغالبية العظمى، إمّا سيفاجئها السؤال فترتبك، أو سيهمي عليها الخوف فتصمت.
يفتح قانون الجرائم الإلكترونية الذي صدر أخيراً الباب واسعاً على تأويل كل حرف ينطقه المواطن المسحوق، ويحيله إلى القضاء
بعد هذه السنوات المدمّرة، لا يمكن الاعتماد على الوعي المجتمعي، ولا على منظومة القيم والأخلاق، فكلّها أصابها الانهيار، وازدهر بدلًا منها الجدل والخلاف الأجوف والانقسام المجتمعي. ممّا لا شك فيه أن مثل هذه المنصات الإعلامية التي صارت منتشرة بطريقة مذهلة ساهمت أيضًا في انهيار الوعي، واشتغلت مثلها مثل باقي المنابر الإعلامية على التضليل وحشد الرأي العام في اتجاه الخلاف والكراهية والتناحر. وكانت هناك تعليقات على المنشور تشير إلى هذا الجانب، كأن نعتوا أدمن الصفحة، كاتب المنشور، بأنه مثل "محراك التنّور" يعمل على الفتنة وإضرام نارها.
انهيار منظومة القيم الاجتماعية في سورية، خصوصا بعد سنوات من الحرب، نتيجة طبيعية وحتمية، لكن ما يثير الاستغراب والقلق الاستجابة السريعة وتسارع وتيرة الانهيار واختلال القيم في المجتمع. الفرد الذي يرى ما حوله ينهار، والمجتمع يتفكّك وينحلّ، والحكومة التي يفترض أنها مسؤولة عنه، تفصلها فجوةٌ عميقةٌ عن حاجاته ومعاناته، بل يزداد الواقع سوءًا وقتامةً، بما يتفشّى فيه من انحرافات أخلاقية ومشكلات مجتمعية وحياتية، وانتشار للجريمة وفقدان الأمن، وتضييق على الحريات والعيش، سوف يبرز أشواكه تجاه محيطه في بيئة يراها غير آمنة، وتجاه الغير ممّن يتشارك الحياة معهم، يمارس العنف بتلقائيةٍ مثلما لو أنه صار الضامن الوحيد للبقاء. وزيادة في تكريس وجوده وتحدّي الخوف الممتلئ به، يصبح مَلكيًّا أكثر من الملك، يصبح سلطويًّا أكثر من السلطة، ويمعن في التأديب والعنف وتخوين كل من تخوّل له نفسه أن يقول: آخ، من عمق وجعه. السوري مطلوبٌ منه الطاعة، والطاعة العمياء، وللوصول إليها هناك وسيلتان، التجهيل، فمن يجهل لا يعرف إلّا أن يطيع، والترهيب الذي أدواته متوافرة أكثر من رغيف الخبز.