في تحدّيات الانتخابات الليبية
بعد مرور عشر سنوات على سقوط الدكتاتور الليبي، معمر القذافي، يعيش الليبيون على أمل الخروج من حالة الحرب الأهلية التي شهدتها بلادهم طوال العقد الماضي، لكن يبدو أن مستقبل رؤية ليبيا مستقرّة ما زال بعيد المنال. فكلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها يوم 24 الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول)، تعاظمت المخاطر التي تهدّد بنسف هذه المحطة، من كل من الفاعلين الداخليين والخارجيين، فضلاً عن تاريخٍ طويلٍ من الاستبداد خلف دولة فاشلة.
وحتى في حال سير الأمور كما هو مخطّط لها، وجرت الانتخابات في موعدها المحدّد، فذلك لا يعني أنّ المهمة انتهت، لأنّ الانتخابات التي يرى فيها كثيرون اليوم الأمل من أجل إحلال السلام وإنهاء عشر سنوات من الاضطراب والتشرذم السياسي في ليبيا قد تتحوّل غداً إلى محطّة أخرى من محطات الصراع المحتدم بين الأطراف الليبية في الداخل، وبين حلفائهم في الخارج. وثمّة أكثر من سببٍ يدفع إلى الاعتقاد أنّ الاستحقاقات الليبية المقبلة لن تزيد الوضع إلا تأزّماً، لأنّها تحمل في طياتها كثيراً من عوامل إذكاء الصراع الداخلي، وفتح مستقبل ليبيا على المجهول.
وبقدر ما يرى كثيرون في الانتخابات الليبية موعداً مهماً لاسترجاع الأمل في رؤية ليبيا مستقرّة، إلّا أنّ التحديات الكبرى التي تواجه هذه الاستحقاقات قد تحوّلها إلى نقطة بداية جولة جديدة ومدمرة من الحرب الأهلية المستعرة منذ عشر سنوات ونيف. أول هذه التحدّيات يكمن في تنظيم الانتخابات. فعلى الرغم من الجهود التي بذلت من أجل الإعداد لها، وتمخضت عن عملية السلام الواعدة التي رعتها الأمم المتحدة اعتباراً من أكتوبر/ تشرين الأول 2020، والتي استلزمت وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، وكان جديدها مؤتمر باريس الذي جمع رؤساء دول عديدين، وحضرته نائبة الرئيس الأميركي، إلّا أنّ كلّ احتمالات نسف هذه المحطة لا تزال قائمة، ويرى مراقبون أنّه على الرغم من التحذيرات المستمرّة، لا تزال هناك محاولات لتعطيل الانتخابات، بغرض تقويض عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا.
يبدو أن مستقبل رؤية ليبيا مستقرّة ما زال بعيد المنال
التحدّي الثاني الكبير الذي يواجه هذه الاستحقاقات عودة شبح القذافي، ممثلاً بالجنرال خليفة حفتر أو بسيف الإسلام القذافي، وكلاهما مرشّح قوي في هذه الانتخابات التي قد تعيد ليبيا إلى الاستبداد الذي أطاحته ثورة الشعب الليبي عام 2011. وكلا الرجلين يجرّ وراءه ماضياً سيئاً. فحفتر ليس سوى جنرال فاشل في عهد القذافي، هو وجيشه الوطني متّهمان بارتكاب جرائم عديدة خلال العشرية الماضية، بما في ذلك استهداف مناطق مدنية، وإنشاء مقابر جماعية عُثر داخلها على رفات رجال ونساء وأطفال، وما زالت تلاحقه دعواتٌ تطالب بمحاسبته على تلك الجرائم التي ترقى إلى جرائم حرب. وإذا تمكّن هذا الجنرال الدامي من الحصول على حق الترشّح في الانتخابات المقبلة، فسيكون ذلك أكبر طعنٍ لصدقيتها، ولكل ما قد تسفر عنه من نتائج.
يتخوّف مراقبون كثيرون من محاولات تزوير نتائج الانتخابات، ما سيفتح البلاد أمام صراعاتٍ داخليةٍ جديدةٍ
وفي المقابل، عاد سيف الإسلام القذافي، مثل كابوس مزعج، عندما أعلن استعداده لقيادة ليبيا التي خرّبها والده بعد أربعة عقود من الحكم الاستبدادي، وذلك على الرغم من أنه مطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتحديداً دوره المزعوم في قمع الاحتجاجات في عام 2011، وهو متهم داخلياً أيضاً بتعاونه مع المرتزقة الروس. وفي حالة إجازة ترشيح نجل القذافي، سيكون هذا القرار أكبر تقويض، ليس فقط للانتخابات المقبلة، بل لعملية السلام الهشة القائمة.
التحدّي الثالث، وهو لا يقلّ خطورة عمّا سبقه، شفافية تلك الاستحقاقات، إذ يتخوّف مراقبون كثيرون من محاولات تزوير نتائجها، ما سيفتح البلاد أمام صراعاتٍ داخليةٍ جديدةٍ، خصوصاً أنّ هذه الاستحقاقات ستجري في ظل استمرار الانقسامات التقليدية بين الغرب والشرق الليبيين، على الرغم من عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة.
التحدّي الرابع الذي يواجه الاستحقاقات الليبية المقبلة، قبول نتائجها حتى لو كان التصويت نفسه نزيهاً، وهو ما حذّر منه مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، يان كوبيش، الذي شدّد على ضرورة قبول نتائج الانتخابات، داعياً جميع الأطراف الليبية إلى التصويت فيها وقبول نتائجها.
الليبيون في بلدهم غالباً ما كان يُنظر إليهم، طوال السنوات الماضية، حطب نارٍ للحرب الأهلية، أو سقط متاع
التحدّي الخامس وليس الأخير، لأنّ تحديات هذه الاستحقاقات أكثر من أن تُحصى في مقال سيّار، دور القوى الخارجية التي بفضل ضغطها تجري هذه الانتخابات، لكن لكلّ جهة منها حساباتها الخاصة من ورائها، وفي حال عدم تحقّقها، لن تسلّم بنتائجها بسهولة، وستعمل من خلال أدواتها في الداخل على تقويض عملية التحوّل الديمقراطي في ليبيا، وعرقلة كل محاولة الوصول إلى تسوية طويلة الأمد. يضاف إلى ذلك وجود أكثر من عشرين ألف مرتزق تحت إمرة أمراء الحرب الأهلية، ما زالوا يسيطرون على أجزاء مهمة من البلاد، في ظل استمرار الانقسامات بين الغرب والشرق، ما يهدّد بحدوث مزيد من الصراعات مستقبلاً، بناءً على نتائج هذه الانتخابات، من دون أن ننسى عشرات الآلاف من القوات الأجنبية الذين لا يزالون داخل ليبيا، على الرغم من الاتفاق على مغادرتهم.
وفي كلّ الحالات، جرت الانتخابات الليبية في موعدها أو أُجِّلَت إلى أجل غير مسمى، يبقى الشعب الليبي أكبر ضحية عانى في الماضي من استبداد القذافي، ويعاني اليوم من مشكلات فشل قيام الدولة، ومن سنوات الحرب الأهلية المدمرة التي أثرت في مستويات معيشته وأرهقت صحته العقلية والجسدية. والمفارقة أن الندوات الدولية التي تعقد حول الشأن الليبي غالباً ما تتجاهل هذا الشعب، وحتى عندما يكون هناك تركيز على الجانب الإنساني في ليبيا، يكون الهدف من ذلك وقف تدفق اللاجئين والمهاجرين نحو أوروبا. أما الليبيون في بلدهم، فغالباً ما كان يُنظر إليهم، طوال السنوات الماضية، حطب نارٍ للحرب الأهلية، أو فقط سقط متاع، وهذه أول مرة يُنظر إليهم أصواتاً انتخابية يمكنها أن تحدّد مستقبل المرحلة الانتقالية في البلاد، وإلا فإن بصيص الأمل الضيق لمستقبل الليبيين قد يتلاشى، ومصيره اليوم يوجد لأول مرة بين أيدي الليبيين أنفسهم.