في تحية "غوغل" كريمة عبّود

20 نوفمبر 2016
+ الخط -
ليس للفلسطينية، اللبنانية الأرومة، كريمة عبّود، والمتوفاة في العام 1955 شهرة ذائعة، غير أن محرّك البحث "غوغل" يحتفي بها، أخيراً، في عيد ميلادها الـ 123، فيفاجئ مستخدميه باسمها، من تكون، وما الذي يعطيها هذه الأهمية حتى يلتفت إليها هذا الفضاء الإلكتروني الأشهر في العالم؟ ستعرف أنها مصوّرة، ولدت في بيت لحم، وعاشت في الناصرة وقتاً، وبدأت التصوير هوايةً في 1913، قبل أن تحترفه، وتلتقط صور عديدة في المدينتين، وفي القدس وحيفا ويافا وغيرها، وكان لها أستوديو في بيت لحم، ومشغلٌ لتظهير الصور متقنة، ولها مئات الصور المحفوظة والمفقودة، والبالغة الأهمية، ليس فقط في درس التاريخ الاجتماعي الفلسطيني، وإنما أيضاً في مقاومة الأزعومات الصهيونية عن خلو فلسطين من البشر، إلا من الرعاة ورجال الدين في الكنائس. وللحق، تعدّ ثمينةً جداً التفاتة "غوغل" إلى هذه المرأة الرائدة، والتي تعد أول مصوّرة فلسطينية (هناك من يخمّن أن نجلاء رعد، ابنة أول مصوّر فلسطيني خليل رعد، سبقتها؟)، إذ تُذكّر هذه الالتفاتة أهل الاختصاص، ولا سيما من الفلسطينيين، إلى الضرورة شديدة الإلحاح، لدراسة تاريخ التصوير الفوتوغرافي في فلسطين ومساره ومشهدياته، لأنه يحيل بالضرورة إلى الاستخدام الصهيوني المديد للصورة في ترويج فلسطين أرضاً بلا سكان، وأن اليهود الذين "عادوا" إليها هم من صنعوا حداثتها، في الزراعة والصناعة مثلاً.

تنتسب كريمة عبّود إلى أسرةٍ مسيحية، كما كل الذين استهواهم التصوير الفوتوغرافي، واشتغلوا فيه واحترفوه في فلسطين، في الربع الأول من القرن العشرين، وقبله بقليل، كانوا مسيحيين، ومن الأرمن غالباً، ما قد يعود إلى شيوع القناعة بتحريم الإسلام التصوير. وإذا صحّ ما كُتب أن أول مدرسةٍ في العالم العربي لتعليم التصوير الضوئي كانت في القدس، في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، وأسّسها الأسقف يساي غرابيديان، والذي صار بطريركاً للأرمن في 1865، إذا صحّ ذلك، فإنه يؤشر إلى واحدةٍ من شواهد التمدّن (والحداثة) المبكرّة في فلسطين، وإلى الدور المركزي الذي نهض به الفلسطينيون المسيحيون، وأترابهم المسيحيون الوافدون، في إحداث هذا التمدّن الذي كان من علائمه احتراف كريمة عبّود وتجوالها في فلسطين، والتقاطها بنفسها الصور المتنوعة، وكسرها احتكار الرجال مهنة التصوير (والعيش منها). وهذه رواية الكاتبة ليلى الأطرش "ترانيم الغواية" (2014، منشورات ضفاف) إذ تعتني بالقدس، حياةً وفضاءً وناساً من نهاية القرن التاسع عشر إلى ما بعد نكبة 1948، فإن بطليها، الخوري ومحبوبته، يذهبان إلى استوديو كريمة عبّود في بيت لحم، لأخذ صورة تذكارية لهما معاً.
ولأن "الصور حياةٌ ثانية، الناس تموت وصورهم تبقى"، على ما قال الخوري لمحبوبته في رواية ليلى الأطرش، لا يثير الاستغراب غضب الحركة الصهيونية وتبرّمها الشديد من كتاب "إنهم بشرٌ أيضاً"، والذي نشره المصوّر السويدي، بيير آولو أندرسون (توفي في 1980) في نيويورك في 1957، بتمويلٍ من جمال عبد الناصر، وضمّ صور التقطها للاجئين الفلسطينيين في بعض المخيمات (الشاطئ في قطاع غزة مثلاً)، فاشترت منظمةٌ صهيونية كل نسخ الكتاب (طريقة متبعة الآن في تغييب الكتب ومنعها!)، لتخفيه، فلا يخدش رواية الكاميرا الإسرائيلية والصهيونية. وفي الوسع أن يقال، هنا، إن شغلاً توثيقياً ومهنياً بات ملحّاً جداً أن تبادر إليه مؤسسة فلسطينية، أو عربية، يعمل على جمع أرشيف فوتوغرافيا فلسطين، مع تعزيزه بدراساتٍ تحليلية تتقصّى ما قد يجوز تسميتها حرب الكاميرا في احتلال فلسطين، منذ الإرساليات التبشيرية، والبعثات الاستشراقية، في القرن الثامن عشر، مروراً بما أقدمت عليه الحركة الصهيونية في نشر صور استخدمت للتدليل على زعم أن فلسطين ظلت أرضاً خالية من البشر والسكان، قبل "عودة" إليهود إليها، لإقامة "وطنهم الموعود" فيها.
... هي زوبعةٌ من خواطر ذهبت، هنا، إلى الثقافيّ والإنسانيّ والكفاحي والتاريخي، في مقطعٍ من تاريخ فلسطين غير البعيد، أحالت، هنا، إلى نتفٍ منها، تحية "غوغل" امرأةً فلسطينيةً رائدة اسمها كريمة عبّود.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.