في تذكّر أحمد المجاطي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
"تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة".. جملة شعرية بليغة قالها الشاعر المغربي الرائد، أحمد المجاطي المعداوي، الذي توقّف عن كتابة الشعر بعد هزيمة 1967 وانكسار الحلم العربي. اختار الصمت موقفا، فارتكس وارتكن إلى ذاته، تعبيرا عن حالة اليأس التي سادت العالم العربي بعد النكسة، خصوصا في ضمائر النخبة الثقافية المتطلعة. ولكنْ من حسن الحظ أنه كان قد أبدع ديوانه الخالد "الفروسية"، أو بعنوان آخر ذي دلالة أنطولوجية وشعرية وهو "الخمارة". سكب فيه مشاعره كلها، وبشاعرية بليغة ضمنت لهذا الديوان التمثيل المتجدّد. ولا غرو أن يصير الديوان "إنجيل الشعراء" في المغرب، ويكرّس اسم أحمد المجاطي من أعلام الشعر العربي الحديث. بل إني أعرف أصدقاء يحفظون "الفروسية" كاملا، ويستظهرون قصائده بمتعة تتضاعف في كل مناسبة.. فحين ألتقي، مثلا، الشاعر العماني الصديق إسحاق الخنجري، في أي لقاء، ثقافيا أو في سياق شخصي، لا بد أن يصدح مردّدا مقاطعَ مطوّلة من "فروسية" المجاطي.
كان من حسن حظي أن التقيت المجاطي، رحمه الله، أكثر من مرة. بمعية أستاذنا الناقد الرصين نجيب العوفي الذي كان من أقرب أصدقاء المجاطي. في مقهى الرياض في الرباط، الذي عُرف أيضا بمقهى "العْربي"، على اسم نادله العملاق الأسمر الذي كانت له طريقة خاصة في الترحيب بضيوفه، وإشاعة أجواء المرح والحيوية بينهم.
واقترن اسم الراحل بـ"الفروسية"، إلى درجة أنّ كثيرين لا يعرفون، مثلا، أن الأستاذ السابق في جامعة محمد الخامس في الرباط، قبل قرض الشّعر، امتشق طويلا "سيف" نقده، فإلى جانب الديوان اليتيم المذكور الذي بوأه واحدا من رواد قصيدة التفعيلة إلى جانب عبد الوهاب البياتي وأدونيس ونازك الملائكة وغيرهم، هناك كتاباه "ظاهرة الشعر الحديث" و"أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث"، وقد كتبا في الأصل تحت إكراهات الدرس الجامعي (أحدهما ضمن مقرّرات المدارس المغربية)، لكنهما ينمّان عن امتلاك صاحبهما رؤية شاعر محنّك في "شعر التفعيلة"، معضّدا ذلك بتصوّر أستاذ جامعي بممارسة طويلة في تدريس الآداب وفقه اللغة وعلومها.
أذكر أني حضرتُ الجلسة التي أقيمت له قبيل وفاته، في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، في قاعة كانت تغص بالطلبة والأساتذة، كأنهم وفدوا لإلقاء النظرة الأخيرة. قرأ الراحل في الأمسية بيدين مرتعشتين.. في لحظة، أخذتني رعشة يدي الراحل في رحلة عادت بي إلى خمسينيات القرن العشرين، حين كان طالبا في الثانوي، يكتب باسم أحمد المعداوي قصائد شعرية عمودية وقصائد رومانسية، يُستشفّ منها تأثره بشعراء مدرستي الديوان وأپولو وشعراء المهجر. وانتقل الراحل إلى كتابة الشعر "المعاصر". وسيكون رفقة شعراء مغاربة مؤسّسين حقيقيين لـ"شعر التفعيلة" في المغرب، أبرزهم محمد السرغيني ومحمد الخمار الكنوني وعبد الرفيع الجواهري وأحمد صبري وعبد الكريم الطبال ومحمد الميموني وأحمد الجوماري وبنسالم الدمناتي وعبد الإله كنون وآخرون.
وتَواصَل شريط الاسترجاع على صوت الرّاحل، وهو يتلو كلمته بشفتين ويدين مرتعشتين، فرأيت ابن 1936 في الدار البيضاء، وهو يتلقّى دراسته الابتدائية والثانوية بين العاصمتين المغربيتين، الاقتصادية الدار البيضاء والإدارية الرباط. وبعد حصوله على الإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، نال دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس في الرباط (1971) بإشراف السوري أمجد الطرابلسي. وكانت موضوعة أطروحته "حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة (1947 -1967)". وبعد ذلك ينال دكتوراه الدولة بـ"أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث". وفي غضون ذلك، خاض تجربة طويلة في كتابة الشعر ونقده، وأيضا في التدريس (أولا في جامعة محمد بن عبد الله في فاس منذ 1964، ثم في جامعة محمد الخامس في الرباط).
عبرت مشاهد مساره الطويل والحافل على وقع صوته وارتعاشة يديه في آخر لقائي به.. أياما بعد ذلك (1995) توفي أحمد المجاطي المعداوي. ثم في أربعينية وفاته، حضرت مسرحية "الخمّارة"، التي عرضتها فرقة الشمس، وجسّدها بإتقان كل من الراحل محمد بسطاوي والفنان الموهوب محمد خيي. وفي السينوغراف عبد المجيد الهواس، وكان في الإشراف العام يوسف فاضل، وعبد الله الريامي في الدراماتورجيا. كانت المسرحية عملا جماعيا في حقيقتها، حيث كان يظهر عبد المجيد الهواس ضمن الممثلين وهو يلقي الشعر.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية