في تذكّر "الاجتياح"
الإنتاج الدرامي صناعةٌ ثقيلة، مُكلفة، موصولةٌ ببِنياتٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وتسويقيةٍ ليست قليلة، فضلا عن أن شروط التميّز فيها عديدةٌ ومتنوّعة. وللنهوض بها ومعها متطلباتٌ تحتاج خبراتٍ وكفاءاتٍ ومواهبَ وقدراتٍ متعدّدة الاختصاصات. ولهذا كله، وغيره، العوائق والإشكالات أمام صناعةٍ دراميةٍ فلسطينيةٍ وفيرة. غير أن هذا الحال لا يعني غياب إمكاناتٍ، في الفضاء الفلسطيني، في الوطن والشتات، تُسعِف في تقديم إنتاجاتٍ دراميةٍ تلفزيونيةٍ متقدّمةٍ فنيا وجماليا. ولعل الحضور الطيّب لإنتاجاتٍ سينمائيةٍ فلسطينيةٍ، تُنجَز بمبادراتٍ وشراكاتٍ وقنوات دعم مالي متنوّعة، فلسطينية وعربية وأجنبية، يدلّ على أن في الوسع أن تُرى على الشاشات مسلسلاتٌ تلفزيونيةٌ فلسطينيةٌ تماما، تمثيلا وكتابةً وإخراجا، على قدرٍ من الإجادة والجاذبية، والشرحُ في هذا يطول. ولكن ما قد لا يطول، أقلّه هنا في هذه المقالة (أو العُجالة؟)، القول إن المرئيّ في التقارير الإخبارية المصوّرة عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة ليس كل الموضوع، ليس القصّة كلها، ليس التفصيل الفلسطينيّ الوحيد، ليس السرد المكتمل لهذه الواقعة أو تلك. ثمّة فلسطينيون لا نراهم، مقاومون يُبدِعون وسائل التواصل فيما بينهم، لتأمين صمودِهم ورمي المحتلّ بمفاجآتهم، ثمّة ناسٌ في بيوتهم، في حقولهم، في مدارسهم، في ...، يقولون ويحكون عمّا لا نعرف، لكلٍّ منهم هموم عيشه ومكابداتُه وقلقُه، ثمّة آلاف الخرزات في المُطرّز الاجتماعي خلف الذي قدّامنا لا نراها. عن هؤلاء الجميع، في غضون ما يعيشون ويعايشون، في الوُسع أن تنكتبَ عشرات القصص والمشهديات والحكايات والمسرحيات والروايات، وكذلك السيناريوهات التلفزيونية ومسلسلات الدراما. والبديهيّ هنا أن كل هذه الكتابة يتأهّل لها أصحاب المعرفة بشروطها، أو من يتمرّنون عليها.
مناسبة هذا الكلام ما لا نعرفه عمّا يحدُث في جنين ومخيّمها. المشاهد نفسُها، أو متشابهة، أو تكاد نظنّها متكرّرةً للآليات العسكرية الإسرائيلية وبنادق الجنود المعتدين وسفالات المستوطنين في هذا الشارع أو الزّقاق، هناك، بين هذه البيوت أو تلك، قدّام هؤلاء النسوة والأطفال أو أولئك. أما الذي لا نُشاهده، لا نعرفه، لا نسمعُه، بين الناس الأهالي، شبّانهم وشيوخُهم، صباياهم وعموم نسائهم، لا يُخبرنا شيئا عنه البثّ المباشر على شاشة التلفزيون أمام عيوننا، يُنتظر أن تُصوّره مواهب في الكتابة والتأليف وبناء القصص والروايات. يُنتظر أن نراه في أعمالٍ درامية تشخّصه، تأخذُنا إليه ولو على بعد مسافاتٍ زمنيةٍ منه، قصيرة أو طويلة. من يكتُب؟ من يبني السيناريو؟ من يُنتج؟ من يصنع المسلسل؟ من يبيع ويشتري ويعرِض على هذه الفضائية أو تلك؟ من يتفرّج ويعجبُه أو لا يعجبُه؟
كانت لأهالي جنين ومخيّمها ملاحظاتٌ (وانتقاداتٌ) على المسلسل الذي أصاب نجاحا واسعا بين مشاهديه ومن تابعوه، وتوفيقا فنّيا عاليا، "الاجتياح" (المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، عمّان، 2007)، بعضها محقّ، غير أنها لا تُلغي القيمة الخاصّة لهذا العمل الذي يعدّ من أميز النتاجات الدرامية العربية التي اعتنت بالموضوعة الفلسطينية. انشغل بصمود الفلسطينيين في الضفة الغربية في أثناء عدوان شتاء 2004، سيما في معركة مخيّم جنين وبسالة المقاومين فيه. وليست هذه القيمة على صعيد مضامين المسلسل وحسب، وإنما، قبلها وبعدها، على صعيد كتابة السيناريو (رياض سيف مع مساهمات آخرين)، حيث أبرز تفاصيل معيشيةً في حياة الأهالي، سيّما في أثناء الحصار الإسرائيلي، وقد أتى أيضا على حصار كنيسة المهد ومقرّ الرئيس ياسر عرفات. وقد وازى بين تفاصيل الاجتياح الإسرائيلي ومواجهته، حركة الدبّابات والمدرّعات والآليات ووحشية الجنود المعتدين، وقصص صغرى في عيش الأهالي في بيوتهم ومنازلهم. وقد تألّق التونسي الراحل، شوقي الماجري (توفّي في 2019 عن 57 عاما) في إخراج هذا المسلسل الذي تبدّت فيه لمساتٌ تصويريةٌ موحية، وكفاءة في تظليل المشاهد بشحناتٍ من المشاعر الجاذبة، سيما وأنه غلّب الإضاءة القاتمة في معظم اللقطات. وكان مهمّا فوز "الاجتياح" في 2008 بجائزة إيمي الأميركية لأفضل إنتاجٍ عن المسلسلات الطويلة، متقدّما على نحو 500 عمل درامي، ولا يغيبُ هنا التنويه بأداء الممثلين عبّاس النوري، صبا مبارك، زهير النوباني، منذر رياحنة.
تُذكّر مآثر جنين ومخيمها بأن الأعمال الدرامية التلفزيونية عن القضية الفلسطينية، في انعطافاتها ومختلف زواياها، شحيحة. وتذكّر بمسلسل "الاجتياح" الذي كان علامةً، ومنجَزا دلّ على أن الحكاية الفلسطينية غزيرةٌ بالذي نشتهي دائما ألا تغيب عن الشاشات.