في تذكّر "الحرّيف"
تجمع كرة القدم الناس، تُشيع فيهم الفرح، وهم في فائضٍ من البساطة، وفي أرطالٍ من الإحباطات والخسارات والخيبات. فقراء ومكبوتون، يخطفون لحظات البهجة من تذكّرهم ماضيا ابتعد، بالوهم وغير الوهم. تلمّهم كرة القدم في الحارات، كرة الشراب، في ساحات رملٍ فارغة. يغتبطون بالأهداف وتمريرات الكرة من بين الأقدام. ... كثيرٌ من هذا، وكثيرٌ من غيره، يحضران في واحدٍ من أجمل أفلام السينما المصرية، "الحرّيف" (1983). وكل فيلمٍ للمخرج الراحل، محمد خان، ممتلئٌ بالكثافة في التعبير والإيحاء، بالمعاني والمغازي الوفيرة، بالقدرة على أن يُعايش المشاهد جوانيّات الشخصيات قدّامه ودواخلهم. أما أن لا يعتدَّ عادل إمام بهذا الفيلم الذي يُحسَب من أهم أفلامه وأرقاها (افلامه المهمة والراقية بعدد أصابع اليد الواحدة) فهذا شأنُه، وقد أخذ هذا الموقف الغريب (وخاصَم محمد خان، كما قرأنا)، بسبب عدم تحقيق الفيلم إقبالا جماهيريا واسعا وإيراداتٍ عالية. وأن يضمّ نقادٌ ومثقفون، في استطلاعٍ أنجزه مهرجان دبي السينمائي الدولي في 2013، "الحرّيف" بين أفضل مائة فيلم في السينما العربية، فهذا طبيعي، بالنظر إلى إتقانٍ بديعٍ، في تصوير سعيد شيمي ورؤية محمد خان الإخراجية (مؤلف الفيلم أيضا) وسيناريو بشير الديك، حاراتٍ مصريةً في هامش القاهرة، بطبيعتها من دون أي ديكوراتٍ أو تصاميم خاصة. وأميل إلى أن هذا الفيلم، وهو الرابع في سينما محمد خان، استحقّ منزلةً أعلى من التي حازها بين الأفلام المائة تلك.
ذكّرنا مونديال قطر برواياتٍ عربيةٍ طرحَت مُرسَلاتِها ومضامينَها بالاتّكاء على أجواء كرة القدم ومبارياتها. وعلى قلة هذه الروايات التي تميّز بعضُها حقا، فإنه لافتٌ أن تخلو السينما المصرية (أو العربية عموما؟) من فيلمٍ راقٍ وبمفرداتٍ جمالية عالية القيمة صنع بعضا من هذا، باستثناء "الحرّيف" (ربما أكون مخطئا في هذه الإطلاقية؟)، وإنْ دسّت أفلامٌ مصريةٌ هزليةٌ وبالغة التجارية وشديدة الخفّة كرة القدم في مشاهدها، وشارك في بعضها لاعبون معروفون (أدّى عادل إمام نفسُه دورا في واحدٍ منها). وكرة القدم في فيلم محمد خان هي كرة الشراب في الحارات الشعبية، لكن فيها مراهنات وبزنسسة (وفساد أيضا) وخيانات، كأنها تشابه عالم كرة القدم في مساحاتها الكونية المعلومة. وليس هذا من شواغل الفيلم الذي ضجّ بمُرسلاتٍ أخرى، منها أن بطل الفيلم، الذي يعمل في ورشة صناعة أحذية، المثقل بالإحباطات والهزائم، واسمُه فارس (عادل إمام)، يحقّق نفسه وتفوّقه، ويلقى اهتمام الناس به ومحبّتهم له، في ملعب كرة القدم، حيث يغلب بؤسَ أحواله وعجزَه وتعاستَه وخيباته والعنف الذي فيه وكثيرا مما يغالبه في خارج الملعب. في الحواري المنسيّة، حيثُ الناس، في بيوتهم وفي المقاهي، وفي الأزقة والشوارع المليئة بالغبار والنفايات، متعبون، وكلُّ واحدٍ منهم، في فردانيّته، مشحونٌ بانتظار فرحٍ مشتهى وتحقّق آمالٍ غافيةٍ في نفوسهم.
مباراة أخيرة يشارك فيها فارس مع الفريق المهزوم، ويقلب النتيجة، يسمّيها مباراة الوداع. بدت كأنها لاعتزال اللعب، والمضي إلى انعطافةٍ أخرى في حياته، يُغادر فيها الشقاء الذي يكابده في علاقته العاطفية المتوتّرة مع مطلقته (فردوس عبد الحميد) التي يبقى على حبّها (وإنْ يمارس الجنس تفريغا لكبتٍ وإحباطٍ ثقيليْن مع أخريات)، وفي علاقته غير السويّة مع ابنه ووالده. والفيلم مثقلٌ بتفاصيل لا عدّ لها، ففيما يركّز على الشخصية الرئيسية فيه، بكل الظلال النفسية لها، فإنه يبدو فيلما عن قيعانٍ سُفلى للقاهرة، عن مجتمعٍ يستشعر نفسَه مبعدا منها، عن ناسٍ مسحوقين أرهقتهم ضغوط الحياة وهم يصارعون فيها من أجل شيءٍ من الكرامة وحدٍّ أدنى من حاجات العيش. وفي الأثناء، يروْن كرة القدم في حاراتهم البائسة فرصةً لخطف ما قد يتيسّر من فرحٍ عابر، مخدوشٍٍ، في الفيلم، بتفاصيل لعب آخر، عنوانه الاستغلال الذي يمارسه رزق (عبدالله فرغلي) الذي فقد إحدى ساقيه قبل زمن، وصار متعهّد فارس (وغيره) لترتيب الرهانات والمباريات، واختلاس ما في وسعه أن يختلسه.
نتذكّر "الحرّيف" فيلما عن الحزن والشقاء، وعن التمرّد والرفض والتحدّي أيضا. نتذكّره واحدا من إبداعات سينما متفوّقة صنعها محمد خان. نتذكّره أصاب لمّا اختار كرة القدم مبعث فرح ناسٍ مغلوبين، يريدون أي انتصارٍ على الخيبة والأمنيات الهاربة. نتذكّره فيلما جميلا، من أولٍ ومن آخر، وإنْ لم يُرض عادل إمام .. ومن قال إن رضاه ضروري، ثمّة ما هو أوْلى.