07 نوفمبر 2024
في تذكّر "الشيّاح"
حدث في مثل هذا اليوم (13 إبريل/ نيسان) قبل 43 عاماً أن حرباً نشبت في لبنان، استقرّ وصفُها أهليةً، استمرت 15 عاماً، وربما أنفاسٌ منها غير عسكرية ما زالت. اعتنت بتلك الحرب رواياتٌ وقصائدُ ومسرحياتٌ غزيرةٌ، بل لم تبرأ الرواية اللبنانية بعد من غواية الانجذاب إلى مادّتها. وأظنّها نصوصا قليلة في بيبلوغرافيا هذه الرواية، في أربعين عاما، لم تأت على شيءٍ من مناخات الحرب وتفاصيلها، غير أن من مفارقات هذه المسألة أن أول روايةٍ ذهبت إلى موضوعة هذه الحرب الأهلية لم يكتبها لبناني، وإنما الكويتي العراقي إسماعيل فهد إسماعيل، وهي "الشيّاح" (دار الآداب، 1976). جاءت سريعةً، وكاشفة، وذكية، ومتقشّفة في لغتها. ولعلها العمل الروائي العربي الأول الذي عمد إلى تقنيّة تضفير الوثيقة في السّرد المتتابع. بدا صاحبُها، وهو الكاتب المحترف، والمهجوس بموضوعاتٍ عربيةٍ، منذ "كانت السماء زرقاء" (1970) العراقية الأجواء إلى "على عهدة حنظلة" (عن ناجي العلي) قبل شهور، بدا في "الشيّاح"، تحت ضغط الحرب الجارية، في سنتها الأولى، حريصا على التخلص من شحنة السخط في جوانحه، وقد استبدّت به في معايشته مقطعا مبكّرا من الحرب.
مصادفةٌ جعلت إسماعيل فهد إسماعيل يكون هناك، ويُحاصَر في منطقة الشيّاح، مع كثيرين من ناسها، أربعين يوما، بعد أيامٍ من قدومه إلى بيروت بطلبٍ من ياسر عرفات، لمعايشة أحوال اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بعد استقبالٍ فلسطينيٍّ طيب روايته "ملف الحادثة 67" (1974). ثم تمكّن من العودة إلى الكويت، ليباشر كتابة روايته، اللافتة والشجاعة، لا لتكون نصا تسجيليا عن ذلك الحصار، والقنص الذي قضى فيه كثيرون، والخوف والرّوع الثقيليْن هناك، وإنما لتكون فعلا إبداعيا، يتوفّر على استحقاقات الأدب، ما أمكن، فجاءت إلى حدٍّ بعيد وفيةً لشروط النوع الروائي، بمقادير عاليةٍ من الكفاءة، وإن بدا أن ثمّة استعجالا ظاهرا في كتابتها ونشرها، وهي التي تجري وقائعها بعد شهرين من بدء الحرب.
تتوزع "الشيّاح" (160 صفحة) على ثلاثة أقسام، يتجزّأ كل منها إلى وحداتٍ سرديةٍ، غالبا ما افتُتحت ببياناتٍ ونداءاتٍ وأخبارٍ وتحذيراتٍ وتصريحاتٍ، من المقاومة الفلسطينية والجيش اللبناني والدفاع المدني ومصادر أخرى، فيما الفضاء المكاني الأساسي للرواية سردابٌ في بناية، أو مخبأ في سردابٍ على الأصح، صار ملجأً لا يزيد ارتفاعه على مترين، بطول عشرين مترا وأقلّ من نصفها عرضا. يتحاور فيه شخوص الرواية المنتقون من بيئاتٍ لبنانيةٍ وفلسطينيةٍ متباينةٍ، مسلمون ومسيحيون. مسكونون بالخوف، يحاولون البقاء أحياء. وفي الأثناء، ثمّة أصوات أزيز الصواريخ ودويّ الانفجارات، ثمّة رصاصاتٌ طائشةٌ واشتباكاتٌ في الخارج. باختصار، ثمّة حرب، تتوقف نوبةٌ منها ثم تُستعاد، تشتدّ ثم تتوقف ثم تعود. وفي الأثناء، يسقط قتلى ومصابون، تأتي البيانات على أسمائهم، وتُقرأ في الرواية بعضها. وفي واحدةٍ من بُرهات توقف الرصاص والقذائف، يخرج حنّا وأسعد وبولص وإبراهيم من الملجأ المخبأ، فيُقتل بولص وأسعد ويُصاب حنا، في تفاصيل بدا إسماعيل فهد إسماعيل في كتابتها وصّافا حاذقا، تقريريّا وفيّا للمنحى الحكائي الذي انطبعت به الرواية، وهو التخفّف تماما من الشعرية والوجدانية المشغولة بالجوانيّات، مع اعتناءٍ بالسطحي والخارجي، فكأن التحديق بلغة الكاميرا في الخراب ورائحة عفن الجثث النتنة، وبراعة القنّاصة، وأن تصير الشيّاح خلال ثوانٍ منطقة أشباح، أدعى، في تلك اللحظة الساخنة في حربٍ بدأت للتو، من تجريب صيغ أخرى لكتابة روايةٍ تبدأ سطورَها ببحث لبنان عن حكومة يشكّلها، وتُختتم بتشكيل هذه الحكومة، وبين الواقعتين قتلى ومصابون ومُرَوّعون بلا عدد.
يُحدّث الفلسطيني أسعد نفسه، وهو في الثالثة والثلاثين عاما، إنه لو كان في الثمانين أو السبعين أو الستين، أو الخمسين على الأقل، لهان أمر الموت، أما وهو في المستهلّ فأمر مرفوض. ويسأل بولص، اللبناني المتقاعد من الجيش بعد خمسة وثلاثين عاما فيه: لماذا الحرب؟ وتسأل الفلسطينية زينب: لماذا يخافوننا؟ وإذا نجحوا في ترحيلنا من لبنان أين نذهب؟.. هناك في سردابٍ محاصر، حيث الخوف كله، وحيث كثيرا ما تتلصّص عينا أسعد على أجزاء مكشوفةٍ من جسد فائزة، ثمّة حيرةٌ وقلقٌ، وأسئلةٌ بلا عدد، مثلا، بشأن طائراتٍ تضرب مخيماتٍ فلسطينيةً: أليس المفروض بها أن تُلقي قنابلَها على الإسرائيليين؟