في تذكّر تجربة طلابية مصرية
شهدت مصر في العقدين الأخيرين حركة سياسية خرجت عن المألوف منذ انقلاب 23 يوليو (1952). وكان وجه الاختلاف أن التوجهات السياسية الفكرية في مصر بدأت تتجه إلى توحيد الحراك السياسي ضد النظام الاستبدادي وقت الرئيس الراحل حسني مبارك، فظهرت فكرة الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، بحسب شهادة سابقة لجورج إسحاق، أحد مؤسّسيها، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2003، وفي 22 سبتمبر/ أيلول 2004، أقيم أول مؤتمر للحركة، بالتزامن مع عقد مؤتمر الحزب الوطني (الحاكم في حينه). ومن هنا، دخلت الحركة المصرية مسارا مهما في حراكها السياسي.
تكوّنت، بالتزامن، حركة أخرى داخل الجامعات المصرية، سعت إلى تجميع الإسلاميين واليساريين والليبراليين والناصريين. وبعد فترة من التنسيق الذي يمكن وصفه بأنه كان مرحلة جسّ النبض، أصبحت هناك مظلة تجمع حركة الطلاب السياسيين تحت اسم "اللجنة التنسيقية لطلاب مصر"، وعمل الطلاب الذين كانوا في مُقتبل عملهم السياسي على توسيع مساحة المُشترَك، وقمعِ مساحة النزاع. وأذكر أن أحد محدّدات العمل في تلك الفترة أن التنسيق لا يعني تحرّك كل كيان تحت المظلّة بصورة موحَّدَة؛ فالأفكار والاهتمامات ليست واحدةً على الدوام.
انطلق التنسيق على أرضية الحركة الفردية في القضايا الخلافية، أو الاهتمامات الخاصة، والتحرّك الجماعي في الهمّ المشتَرَك، وانطلق أيضا على أرضية تجنّب إشعال القضايا الخلافية، فالقضية الأكبر المتعلقة بالحريات الطلابية، ثم الحريات السياسية بوجه عام، غلبت على القضايا الفرعية. ولم يكن هذا الإدراك فكرة منفصلة عن المزاج السياسي العام وقتها، وإن كانت التجربة الطلابية استطاعت أن تذهب أبعد في التنسيق والحركة الواحدة.
كانت مكانة الأستاذ الجامعي محفوظة قبل ثورة 25 يناير، وكان الأستاذ يستطيع بوجوده أن يعطي حصانة للفعاليات الطلابية
كانت وَحدة الهدف واضحة إلى درجة وضع اليساريين على جدول اجتماع اللجنة دعوةً إلى فعاليات لأجل قرار منع المنتقبات من دخول الجامعات، وهم الذين يختلفون تماما مع هذا المظهر، وما يصاحب التي ترتديه من فِكْر، لكنها كانت قضيةً متعلقة بحقوق الفتيات في اختياراتهن، كما كان مفهوما أنّ تدخّل الدولة لمواجهة فكر، يعني أنها ستقوم بهذا مع غيره، عندما تُجهز على الطرف المستهدَف، فكان مبدأ "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض" يتردّد نَصّاً داخل الاجتماعات. ولذا غَلَبَ الهَمُّ العامُ الهَمَّ الخاصَ.
نجح الطلاب في جذب أساتذتهم المهتمين بالعمل السياسي إلى مساحةٍ التوافق، فكان طلاب الإسلاميين يتواصلون مع أساتذة مختلفين عنهم فكريا، ليحضروا فعاليتهم، وليحتموا بهم أمام بطش الأمن، إذ كانت مكانة الأستاذ الجامعي لا تزال محفوظة قبل ثورة 25 يناير، وكان الأستاذ الجامعي يستطيع بوجوده أن يعطي حصانة للفعاليات الطلابية، وشذّت جامعة عين شمس في السنوات الأخيرة، عندما كان رئيسها أحمد زكي بدر، نجل وزير الداخلية الراحل والمشهور بالشراسة والبذاءة، ولم يرث ابنه تلك الصفات، لكنه فتح أبواب الجامعة لتوغل الأمن والبلطجية بصورة غير مسبوقة.
شاركت اللجنة التنسيقية أيضا في تنظيم المؤتمر الدولي لمناهضة الصهيونية والإمبريالية العالمية، الذي انعقد سنوات في نقابة الصحافيين المصرية، وتحضرُه وفود من عشرات الدول، حيث شاركت في تنظيم "الاتحاد الحر"، وكان بمثابة ثورة تحرّر طلابية شارك فيها عشرات آلاف من الطلاب على مستوى الجامعات المصرية، لتتحقّق مشاركة طلابية كثيفة تفوق الانتخابات الطلابية التي تنظمها الدولة وتزورها، وانزعج النظام بشدّة من فكرة الاتحادات الموازية، وقد كانت ستفتح الطريق إلى انتخاباتٍ موازية على مستوى أعلى كالنقابات، وربما مؤسّسات رسمية فيما بعد.
التجربة الطلابية المصرية رائدة في العقدين اللذين سبقا الثورة، مع وجود اختلافات ساهمت في تعميق التنسيق في تجربة اللجنة التنسيقية
شهدت اللجنة التنسيقية للطلاب خلافاتٍ أيضا، فلم تكن اجتماعا بين معصومين، لكن رغبة صادقة كانت في تجاوز الخلاف. ولهذا كان يجري تجاوز الأزمات مهما كانت قاسية، كما كانت هناك آليات لنزع فتيل الخلافات، أيّاً كان حجمها، إلى درجة الاهتمام بوضع آلية عادلة لترتيب أسماء الكيانات داخل اللجنة في البيانات التي تصدُر عنها، وهي قضية صغيرة، لكنها كانت تسبّب خلافات حادّة في التنسيق بين الأجيال الأكبر في التنظيمات السياسية، فاستقرّ الطلاب على الكتابة، وفقا لترتيب الحروف الأبجدية، وانتهى أي خلافٍ مستقبلي قد يتعلق بمدى التغطية الإعلامية التي ستصاحب البيان، كما كان هناك اهتمام بتوزيع الحديث الإعلامي بين الأطراف، لكي لا يبدو أن طرفا يقود العمل في اللجنة، أو يقود اللجنة إلى فعالياتٍ تتعلق باهتمام تياره الفكري.
كانت هذه التجربة الطلابية نواة لـ"ائتلاف شباب الثورة" الذي قاد الحركة خلال ثورة يناير (2011)، وقد تشكّل المكتب التنفيذي للائتلاف من أفراد من اللجنة التنسيقية، وبعض الذين يشرفون على النشاط الطلابي داخل حركات اللجنة التنسيقية. وكان المشرفون، أيضا، نموذجا لعملٍ تنسيقيٍّ طلابي ناجح في تسعينيات القرن الماضي. وبالطبع، ضم "الائتلاف" أشخاصا من غير هاتين المجموعتين، لكن الشاهد أن التجربة الطلابية المصرية كانت رائدة في العقدين اللذين سبقا الثورة، مع وجود اختلافات ساهمت في تعميق التنسيق في تجربة اللجنة التنسيقية، وربما كانت وسائل الاتصال أحد أهم أوجه الاختلاف، وأحد أهم الأسباب كذلك في تجاوز الإشكال الأيديولوجي أو الثقافي.
عانت الثورة المصرية من الابتعاد عن مسار الوفاق الذي كان موجودا بين الأجيال الأكبر، بدءا من "كفاية"، مرورا بالجبهة الوطنية للتغيير
ثم عانت الثورة المصرية من الابتعاد عن مسار الوفاق الذي كان موجودا بين الأجيال الأكبر، بدءا من "كفاية"، مرورا بالجبهة الوطنية للتغيير بقيادة الراحل عزيز صدقي، وانتهاءً بالجمعية الوطنية من أجل التغيير التي سبقت الثورة بزعامة محمد البرادعي، واختار الرفاق أن يهتموا بالتَّترُّس خلف الفكرة والأيديولوجيا والجمهور الخاص بهم، وبناء قواعد جماهيرية، لا قواعد للديمقراطية، فانتهينا إلى سيطرة أحد محدودي القدرات على كل شيء، كأنه تخفّى في خطواته بينما كانت المشاجرة على أَشُدِّهَا ليأخذ ما يريد، ولما أفاق المتشاجرون، وجدوا أنهم أحرقوا مراكب عودتهم إلى التقارب، واستولى صاحبنا على كل شيء.
ما يمكن استخلاصه من تجارب الوِفاق أمران؛ أحدهما أن وجود إرادة حقيقية لدى الأطراف ستذهب بهم إلى مُرادهم مهما طال الوقت، وثانيهما أن الوِفاق يحتاج إلى زعيم موثوق بين الأطراف المختلفة، فيطمئن الكل إلى نزاهته وقُربه من الجميع بالمسافة نفسها. وتجعله هذه الحالة قادرا على الضغط على أي طرفٍ يحاول أن يخرج عن إطار التصرّف الوطني المفترَض في أي ترتيباتٍ أو مناقشات. وللأسف، لم يوجد هذا الزعيم إلا في حالة الراحل عزيز صدقي الذي ذهب إلى مرشد الإخوان المسلمين، الراحل محمد مهدي عاكف، قبل تدشين الجبهة الوطنية للتغيير، وذهب إلى خصومهم التاريخيين، وهو نفسه كان من قادة الدولة في عهد جمال عبد الناصر، واستطاع أن يكون حازما في قيادته، ووجد قادةً عقلاء، كذلك استطاعوا المرور على خلافات الماضي، إلى أن أيقظ الملاعين هذه الخلافات، وأصبحت بعض مقارّ الأحزب الآن تكتفي بتقديم دوراتٍ تدريبيةٍ في الشؤون المنزلية، ولا خروج لهم من حالة الإذلال هذه إلا بإعادة الوعي السابق بأهمية العمل على المشترَك، وقمع مساحة النزاع.